كرسي الرئاسة في مهبّ التدخلات

ترجمة “هنا لبنان”

كتب ميشال توما لـ”Ici Beyrouth”:

الحقيقة المرّة أن انتخاب رئيس جمهورية في لبنان (باستثناء العام 1970) لطالما كان انعكاساً مباشراً لتوازن القوى الإقليمي والدولي.. وكيف لا في حين يشرّع هذا الاستحقاق الأبواب أمام شتى أنواع التدخلات التي تنبع من الظروف الآنية. وينتخب الرئيس، أو يعين بالأحرى، من قبل عدد محدود من النواب الذين يشكلون البرلمان اللبناني.. وقد ارتفع عدد النواب من 55 بعد سنوات الاستقلال الأولى، إلى 99 ثم 128 بعد مؤتمر الطائف في العام 1989.

وفي بلد بتنوع لبنان، وفي منطقة قلّما تهتم بالممارسات الديمقراطية العادية، يسهل على قوة ما التأثير على تصويت النواب أو على الأقل على جزء منهم لترجيح كفة الميزان بالدرجة “المناسبة”.

وفي نظرة عامة سريعة على السياقات السياسية الخارجية التي ميزت الانتخابات الرئاسية منذ العام 1943 نرى هذا الواقع بوضوح تام.

انتخب أول رئيس للجمهورية اللبنانية المستقلة في مرحلة اتسمت بالاحتكاك والصراع على النفوذ بين بريطانيا العظمى وفرنسا الحرة، كنا حينها في العام 1943 في منتصف الحرب العالمية. وتعهدت فرنسا، التي كانت آنذاك قوة انتداب، بمنح الاستقلال للبنان، لكن هذا الوعد لم يتبلور سريعاً مما دفع بالعديد من قادة البلاد للمطالبة بإصرار بنيل الاستقلال دون تأخير. ويدعي العديد من المراقبين أن بريطانيا حفزت حركة الاستقلال هذه وراء الكواليس سعياً للحد من النفوذ الفرنسي في المنطقة. وحيث أن جزءاً كبيراً من فرنسا كان تحت الاحتلال النازي، لم يسمح وضع باريس بمعارضة هذا التيار بشدة، وحتى أقل من إرادة بريطانيا العظمى، حليفتها الأساسية بمواجهة القوة الألمانية. وقد أدى ذلك في النهاية لانتخاب بشارة الخوري رئيساً للجمهورية، الذي أكد في وقت لاحق على ثقافته وارتباطه بالفرنكوفونية.

ثم ترجم النفوذ البريطاني في الانتخابات الرئاسية عام 1952 مع انتخاب كميل شمعون الذي تجمعه علاقات ودية ببريطانيا. التزم بعده الرئيس شمعون بمبدأ أيزنهاور الذي وضعته الولايات المتحدة من أجل منع النفوذ السوفييتي في الشرق الأوسط، وفي نهاية ولايته (1958) واجهته انتفاضة شعبية ربما بادر بها الرئيس المصري عبد الناصر حليف الاتحاد السوفيتي. فطالب شمعون (انطلاقا من مبدأ أيزنهاور) بإنزال مشاة البحرية الأميركية في بيروت لإنهاء التمرد. وقد ترجمت النتيجة باتفاق بين الولايات المتحدة ومصر لانتخاب القائد العام للجيش العماد فؤاد شهاب لرئاسة الجمهورية.

وتميزت ولاية الرئيس شهاب بجهد كبير في التنمية الاجتماعية والاقتصادية وفي تعزيز مؤسسات الدولة (لا سيما من خلال إنشاء هيئات رقابة تابعة للدولة)، ولكن أيضًا بظهور مكتب ثانٍ قوي للجيش، والذي كان يتدخل في كثير من الأحيان بطريقة فارضة، في الحياة السياسية من أجل كبح أي معارضة للرئيس شهاب. لتؤدي القوة المطلقة للمكتب الثاني لانتخاب مرشح المعسكر الشهابي شارل حلو رئيساً للجمهورية في عام 1964.

وخلال السنوات الست لعهد شارل حلو، واصل المكتب الثاني عمله الهادف لتقوية الأقطاب السياسية التي تدور في فلك النهج الشهابي ومحاربة فصائل المعارضة، ولا سيما حزب الوطنيين الأحرار برئاسة شمعون والكتلة الوطنية “للعميد” ريمون إده. ما لبثت انتهاكات المكتب الثاني هذه أن أثارت استياءً شعبياً حاداً، لا سيما على مستوى الأحزاب المسيحية الثلاثة، الكتائب وحزب الوطنيين الأحرار والكتلة الوطنية التي شكلت “الحلف” الثلاثي الذي خاض معركة الانتخابات التشريعية لعام 1968. وحقق “الحلف” في هذه الانتخابات نصراً كبيراً أضعف النهج الشهابي أكثر من غيره.

ورأى بعض المحللين أن الرئيس حلو، المنزعج من تصرفات المكتب الثاني، مهد الطريق بشكل غير مباشر لانتصار الحلف من خلال تعيينه زعيم زغرتا سليمان فرنجية وزيراً للداخلية لتنظيم الانتخابات التشريعية والسيطرة عليها. وكان هذا الأخير مرتبطاً في إطار “تكتل الوسط” غير الرسمي بصائب سلام وكامل الأسعد وجوزيف سكاف (زعيم ونائب زحلة)، الذين ابتعدوا عن المعسكر الشهابي.

انتخابات 1970 الرئاسية: حالة فريدة

وانضمت هاتان الكتلتان أي “الحلف” و “تكتل الوسط” لخوض معركة الرئاسة في أيلول 1970، بطرح اسم سليمان فرنجية كمرشح للرئاسة، بمواجهة مرشح المعسكر الشهابي، الياس سركيس، حاكم المصرف المركزي آنذاك. هذه الانتخابات الرئاسية في أيلول 1970 هي عملياً الانتخابات الوحيدة التي جرت بغياب التدخل الأجنبي. وخرجت الدول العربية ضعيفة بعد الهزيمة الساحقة في حرب 1967 والتنظيمات الفلسطينية المسلحة التي استقرت في لبنان بفضل اتفاق القاهرة المشؤوم عام 1969، لم تكن قد بسطت سلطتها على الساحة السياسية اللبنانية بعد. وفي سوريا، لم يكن حافظ الأسد (حفار قبور لبنان) قد قام بانقلابه واستولى على السلطة (تشرين الثاني 1970).

وهكذا وضعت الانتخابات الرئاسية لعام 1970 معسكرين في المواجهة: الكتلة المتحالفة مع “الوسط” وتلك التي تتبع النهج الشهابي. معركة انتخابية ديمقراطية حقيقية، تقوم على توازن محلي بحت للقوى، وفاز بها سليمان فرنجية بفارق صوت واحد، بحصوله على 50 صوتاً مقابل 49 للكتلة المنافسة. حينذاك، كان هناك 99 نائباً تحت قبة البرلمان.

وقد واجه الرئيس سليمان فرنجية عدة تطورات جيوسياسية رئيسية كانت كفيلة بتقويض ولايته: تعزيز وجود التنظيمات الفلسطينية المسلحة (المجتمعة تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية) التي تسللت إلى جزء من الطبقة السياسية اللبنانية. يضاف إليها التدخل العسكري السوري في لبنان (مصحوبًا بتدخل سياسي) عقب اندلاع حرب 1975 ؛ وظهور صراع نفوذ عميق بين منظمة التحرير الفلسطينية المدعومة من الحركة الوطنية اللبنانية (التي تضم فصائل اليسارية) من جهة والنظام السوري الذي سعى لفرض إملاءاته على منظمة التحرير الفلسطينية ولبنان من جهة أخرى.

انتخابات 1976: ظهور النفوذ السوري

الانتخابات الرئاسية لعام 1976 حصلت في سياق الصراع المفتوح بين حافظ الأسد ومحور منظمة التحرير الفلسطينية – الحركة الوطنية. وأيد النظام السوري ترشيح إلياس سركيس، مما أثار استياء الحركة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية الذين خافوا من بسط سوريا لسيطرتها الكاملة على لبنان. وقد انتخب الياس سركيس في حينها عملياً تحت القصف، حيث تعهدت منظمة التحرير الفلسطينية وميليشيات الحركة الوطنية بقصف الطرق المؤدية للبرلمان في محاولة لنسف الانتخابات الرئاسية دون جدوى…

واتسمت ولاية الرئيس سركيس باستمرار الحرب اللبنانية والقتال بين القوات اللبنانية والقوات السورية المتمركزة في لبنان، وقد أدى هذا الوضع المتفجر للهجوم الشامل الذي شنته إسرائيل على لبنان في العام 1982، عندما هجم الجيش الإسرائيلي إلى بيروت وتمركز في جزء كبير من جبل لبنان، ليخرج منظمة التحرير الفلسطينية من العاصمة اللبنانية ومحيطها.

وفي هذا السياق من الوجود الإسرائيلي، انتخب قائد القوات اللبنانية بشير الجميل رئيساً للجمهورية في آب 1982. غير أنه تعرض للاغتيال على يد عملاء سوريين في 14 أيلول 1982، ثم انتخب شقيقه أمين الجميل رئيساً بعد أيام قليلة من الاغتيال. ووقع الرئيس الجميل مع إسرائيل، اتفاقية 17 أيار التي تقضي بانسحاب الجيش الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية. ومع ذلك، تعرض الجميل لهجوم من النظام السوري والميليشيات المحلية المتحالفة معه عسكريًا لإجباره على إلغاء هذا الاتفاق.

مع وصول ولاية الجميل لنهايتها في العام 1988، لم يسمح الوضع الأمني ​​في البلاد بانتخاب رئيس للجمهورية. وبعد ذلك تم تعيين الرئيس الجميل وفقاً للدستور، حكومة انتقالية برئاسة القائد العام للجيش العماد ميشال عون المسؤول عن تنظيم انتخابات رئاسية. لكن العماد عون رفض تسهيل التصويت وخاض حربين متتاليتين ضد الجيش السوري ثم ضد القوات اللبنانية.

وفي محاولة لوضع حد للمأزق السياسي والتصعيد العسكري والأمني ​​الذي مارسه ميشال عون، اجتمع النواب في الطائف بالمملكة العربية السعودية، برعاية جامعة الدول العربية والمجتمع الدولي، وتحديداً الولايات المتحدة وفرنسا، وأثمرت عن ذلك إصلاحات دستورية (اتفاق الطائف) وانتخاب نائب زغرتا رينيه معوض في العام 1989 رئيساً للجمهورية. ولكن رئيس الدولة الجديد، المدعوم على نطاق واسع من السعودية والدول الحاضرة في مؤتمر الطائف (الولايات المتحدة وفرنسا)، تعرض للإغتيال في تشرين الثاني/نوفمبر 1989، مما مكّن النظام السوري من فرض رجله، إلياس الهراوي على رأس الدولة. وهكذا نجح حافظ الأسد في تعزيز قبضته على لبنان وفي فرض تمديد ولاية إلياس الهراوي لمدة ثلاث سنوات (حتى 1998) قبل أن يخلفه لاحقًا لرئاسة الجمهورية في عام 1998، حليف آخر مخلص لسوريا هو اللواء إميل لحود، الذي تم تمديد ولايته أيضًا لمدة ثلاث سنوات، حتى العام 2007.

نهاية الحقبة السورية

شكّل اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في 14 شباط/فبراير 2005، ثم ثورة الأرز التي أعقبت ذلك إيذاناً بنهاية الحقبة السورية في لبنان وبانسحاب قوات دمشق من الأراضي اللبنانية في نيسان 2005. ثم بدأت الحقبة الإيرانية عبر حزب الله الجناح العسكري للحرس الثوري الإيراني. واعتباراً من ذلك الحين، بدأ الحزب الموالي لإيران عملية طويلة للسيطرة على البلاد وتفكيك الدولة والقطاعات الاجتماعية والاقتصادية الرئيسية. وشن هجوماً في 7 أيار 2008 استهدف فيه الأحياء السنية في بيروت وجزءاً من المنطقة الدرزية في الجبل، بعد احتلاله وسط العاصمة في العام 2006 وإثارة حرب مع إسرائيل في تموز 2006. وفي نهاية ولاية لحود في 2007، عرقل حزب الله انتخاب رئيس جديد للجمهورية.

وفي محاولة لإخراج البلاد من الهاوية التي انزلقت إليها، اجتمع القادة الرئيسيون والقادة السياسيون في الدوحة، قطر، في أيار 2008 حيث توصلوا لاتفاق الدوحة الذي يضع معالم الخروج من الأزمة تحت رعاية السعودية والجامعة العربية وبدعم من الولايات المتحدة وفرنسا. ونتج عن هذا الاتفاق انتخاب القائد العام للجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية في أيار 2008.

ومع انتهاء ولاية سليمان في العام 2014، أعاق حزب الله مرة أخرى الانتخابات الرئاسية لأكثر من عامين لفرض انتخاب العماد ميشال عون الذي اصبح رئيساً في 31 تشرين الثاني 2016. ولاية عون انتهت في تشرين الثاني 2022، ومنذ ذلك الحين، يعيق الفريق الموالي لإيران الانتخابات الرئاسية المرة تلو الأخرى – عن طريق تطيير النصاب القانوني خلال الجلسات المخصصة لانتخاب رئيس – من خلال الانغماس في سياسة ابتزاز حقيقية: إما سليمان فرنجية رئيساً وإما الفراغ. لكن ذلك دون الأخذ بظهور تقارب بين المعارضة السيادية (القوات اللبنانية والكتائب والحزب الاشتراكي لوليد جنبلاط) والتيار الوطني الحر (العماد عون) وكتلة ميشال معوض – أشرف ريفي – فؤاد مخزومي بعين الإعتبار حيث تمكن عدد من النواب المستقلين من الاتفاق على مرشح واحد هو جهاد أزعور.

على غرار انتخابات 1970، يبدو أن الانتخابات الرئاسية لعام 2023 تضع معسكرين سياسيين في المواجهة: حزب الله وحلفائه من ناحية ومجموعة واسعة من الأحزاب والتشكيلات والشخصيات من ناحية أخرى التي تعارض الفريق الموالي لإيران. ولكن هناك فارق واحد مقارنة بالعام 1970، حيث لا يغيب التدخل الأجنبي عن المعركة. الجمهورية الإسلامية الإيرانية حاضرة في كل مكان، من خلال حزب الله، في حين أن المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة وفرنسا وكذلك الفاتيكان تحرص على إسماع أصواتها أيضاً. ولكن الاختلاف الرئيسي الأكبر مقارنة بـ 1970 فهو أن القضية الحقيقية لهذه المواجهة تدور في الأساس حول مشروع سياسي واجتماعي ورؤية لدور ومكان لبنان في هذا الجزء من العالم.. قضية وجودية لا يبدو أن مجموعة من النواب الذين يزعمون أنهم “مستقلون” أو ممثلون لانتفاضة 2019، يفقهون أبعادها الحقيقية!

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع ذات صلة :

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us