إبنة حفيدة زولا: الأديب الذي أنقذ شرف فرنسا

ترجمة هنا لبنان 6 نيسان, 2024

كتب Alain E. Andrea لـ”Ici Beyrouth”:

بمناسبة ذكرى ميلاد إميل زولا، لقاء لـ Ici Beyrouth مع إبنة حفيدة الأديب الفرنسي الكبير، مارتين لو بلوند زولا في ميدان (Médan).. وقفة عند أهم المحطات في حياة الرجل الذي جسد الشغف بالحقيقة.
أين هي الحقيقة؟ تلك التي تطاردنا بشدة وتدفعنا في رحلة بحث واحتفاء وأمل معلق بمفاصل الحياة اليومية.. أين هي الحقيقة في عالم يتآكله الزوال.. فيستهلكها ويتنازع عليها ويشوهها أو حتى يعرضها للاحتقار من قبل أكثر الأشخاص الذين يزعمون الدفاع عنها. إنه لأمر مؤسف فعلاً! على مر السنين، استبدل مثقفون كثر السيف بالقلم ليحاربوا الظلام والظلم. ومنهم فلاسفة عصر التنوير، وأبرزهم فولتير، وسواه ممن عارضوا وانتقدوا التعصب الديني والمظالم الاجتماعية في عصرهم بشدة، وأدانوا إساءة استخدام السلطة ودافعوا عن حرية الفكر.
ووضع عظماء آخرون، مثل ستندال وفيكتور هوغو وفيودور دوستويفسكي وليو تولستوي وألبرت كامو، الحالة الإنسانية في صلب محور كتاباتهم، وسلطوا الضوء على التشوهات الاجتماعية والظلم السياسي والصراعات الأخلاقية، داعين لإرساء العدالة. تشهد أعمال الكبار كهؤلاء على التزامهم بـ “الحقيقة، الحقيقة المرة”، على حد تعبير مؤلف كتاب “الأحمر والأسود” (Le Rouge et le Noir)، بكل جوانبها. وربما لم يحمل أحد شعلة الدفاع عن الحقيقة والالتزام بنفس القدر من الحماس كما المفكر الفرنسي إميل زولا. تصدح في كلماته حول واجب الكلام ورفض التواطؤ لإنقاذ الأبرياء المعذبين، صرخة الضمير. ويتردد صدى هذه الكلمات بشكل صارخ في مقاله الشهير “أنا أتهم…”! حيث يدين بسخط الظلم الذي ابتلي به المجتمع الفرنسي في القرن التاسع عشر، مؤكداً على أن لا شيء قادر على إيقاف الحقيقة.
تجسد كتابات زولا دفاعاً قوياً عن الحقيقة الكاملة، من خلال تسليط الضوء على أحلك جوانب ما تبقى من الإنسانية ووضع القراء في تماس مع “رائحة الشعب”، في تحدٍّ لتقاليد العصر ونقل للحقائق المزعجة في كثير من الأحيان. ومن خلال التزامه بالحقيقة والعدالة، التي يراها “سيادية”، لم يسهم مؤلف Rougon-Macquart  بإثراء الأدب في عصره فحسب، بل ساهم أيضاً في رفع مستوى الوعي الاجتماعي وإثارة الجدل حول قضايا العصر الحاسمة. واستلهم نهجه الإنساني من شغف فريد: “الشغف بالنور، باسم الإنسانية التي عانت كثيرًا والتي تستحق السعادة”. بمناسبة ذكرى ميلاد إميل زولا، في 2 نيسان، استعادت مارتين لو بلوند زولا، إبنة حفيدة المؤلف ونائبة رئيس جمعية Maison Zola-Musée Dreyfus، في حديث مع Ici Beyrouth اللحظات الأساسية التي طبعت حياة ورحيل هذا “الرجل الصادق”.

*من خلال عمله الأدبي، استكشف إميل زولا مواضيع عديدة تدخل في نطاق الحالة الإنسانية، بدءًا من الدفاع عن الحداثة الفنية إلى النضال الجريء من أجل العدالة، على سبيل المثال وليس الحصر في قضية دريفوس، وتسليط الضوء على ظروف العمل المرهقة لعمال المناجم في تشريح للمشاعر البشرية الأكثر حدة. البحث عن الحقائق، على اختلافها طارد زولا، مما دفعه لتعريض نفسه للمخاطر الكامنة في هذا النهج. لماذا هذه الرغبة الدؤوبة بمعرفة الحقيقة، التي لا يوقف مداها شيء على ما يبدو؟
-الحقيقة جزء لا يتجزأ من شخصية زولا وهي متأصلة في طبيعته. لقد جسد الشخصية المدفوعة بالرغبة بإدانة كل أشكال عدم المساواة الاجتماعية، وإنقاذ الإنسان من محنته ودعم الفئات الأكثر ضعفاً وحرماناً. كان مقتنعًا بإمكانية تحسين حظوظ البؤساء من خلال الكشف عن الحقائق الأكثر قسوة. وكان مدركاً، نظراً لرجل الضمير الذي يمثله، للمخاطر التي يواجهها بشكل كامل. تم تجريده من وسام جوقة الشرف، وأدار أصدقاؤه ظهورهم له، وخسر زبائنه، وفككت قنبلة أمام مقر إقامته في شارع بروكسل، وتعرض للرشق بالحجارة هنا مباشرة، في ميدان.. ولم توفره الرسوم الكاريكاتورية. المحاكمات كثرت، لكنه أدرك أنّ هذا الطريق ضروري لتحرير شخص بريء. تلك هي الإنسانية الحقيقية. وهذا ما أظهره هنري دو غرو، وهو الذي صور Christ aux outrages بنفس النمط من خلال تصوير زولا وهو يغادر قاعة المحكمة، بمواجهة الغضب الشعبي. يجسد التزام زولا ببساطة التضحية بالنفس، وعبارته الشهيرة حول شبح الأبرياء الذي يطارده بأفظع عذاب عن جريمة لم ترتكب خير مثال. قد يسقط هذا التشبيه بشعور من الغربة اليوم لأنّ الأشخاص الذين يشبهون زولا يزدادون ندرة. كان بحثه عن الحقيقة وعن العدالة بلا حدود.

*ما هي تداعيات قضية دريفوس على المجتمع وعلى الضمير الجمعي، خصوصاً في ما يتعلق بالتطلع إلى الحقيقة ومحاربة المظالم الاجتماعية والسياسية؟
-شهدت قضية دريفوس، التي شابتها معاداة السامية في البداية، دفاع زولا عن شرف الجمهورية وإنقاذها بالإضافة إلى قيمها العالمية مثل المساواة والحرية والعدالة والحقيقة. وشدد على ضرورة العيش معاً للحفاظ على هذه القيم. وقد ساهمت هذه الدعوة بإقرار قانون العلمانية عام 1905، في الوقت الذي كانت تسود فيه الكنيسة الكاثوليكية وكان العديد من الكاثوليك مناهضين لدريفوس. وعززت هذه القضية زيادة الانفتاح والاحترام تجاه الآخرين بمواجهة معاداة السامية. لا شك بأنّ تاريخ كل مجتمع يتطور ولكن من خلال “أنا أتهم” لعب زولا دورًا محفزًا في هذا التطور ووجهه نحو مزيد من الاحترام للآخرين.

*القيم الإنسانية التي روج لها زولا، هل لها مكان في سياق التطرف المتزايد والاستقطاب الأيديولوجي في العالم المعاصر؟
-لا يزال هناك الكثير مما يتعين القيام به، خصوصاً داخل متحف دريفوس، لمكافحة جميع أشكال التمييز. اليوم، ينجح البعض بالتقليل من شأن التطرف، ويعتبرون أنّ بعض التطرفات ليست مضرة. مكافحة هذه الأفكار أشبه بالتحدي اليومي. يروج المتطرفون للأفكار المتعصبة، ومن خلال تبني مثل هذا الموقف، يستبعدون سواهم بشكل منهجي. لقد أصبح الوضع أكثر خطورة وإثارة للقلق، لأن التمييز لن يوفر أحداً على الدوام. وتمثل شخصيات مثل زولا شهادة احترام للآخرين وللإنسانية، شريطة عدم الوقوع في أحد أشكال التطرف.

*في عالم يتجرد أكثر فأكثر من الإنسانية وتتفاقم فيه النزعة الفردية المفرطة بالتوازي مع جموح التطور التكنولوجي، ما هي القضية التي كان زولا ليدافع عنها اليوم، باعتباره أديباً ملتزماً ومراقباً نقدياً؟
-أظن أنّ زولا كان ليحمل في عصرنا هذا، قضية الحفاظ على البيئة. فهو كان ينظر للإنسان كجزء لا يتجزأ من هذا النظام البيئي، ولم يغب عنه دور الإنسان في تدهور الطبيعة وفي تعريض وجوده للخطر. لطالما دافع زولا، بحماس عن البيئة وعن الحياة بجميع أشكالها. وينعكس التزامه بالحفاظ على الطبيعة في عمله، حيث خصص مساحة للحيوانات وعبر عن حساسية واضحة تجاهها. كما أنّ النوافذ الزجاجية الملونة التي تمثل التنوع البيولوجي في منزله دليل ملموس آخر على ذلك. وبمواجهة التحديات المعاصرة مثل تغير المناخ، كان زولا ليسلط الضوء بلا أدنى شك على مسؤوليتنا الجماعية. أعتقد أنّ روحه حية بشكل كبير وتجد الصدى في الدفاع عن الطبيعة والحياة ككل. ومن المرجح أنّ هذا النضال يرافقه حتى وهو تحت التراب.

*شكك البعض في الرواية الرسمية لوفاة زولا في حالة اختناق عام 1902. وارتفعت بعض الأصوات التي ربطت وفاته بعمل إجرامي محتمل، خصوصاً في ظل تورطه في قضية دريفوس وإدانته لإساءة استخدام السلطة. فهل قُتل زولا فعلاً؟
-لا يزال الغموض محيطاً بوفاة زولا. ويمنع غياب التحقيق أو المحاكمة الرسمية، التي تجنبتها السيدة زولا طوعًا أي يقين بشأن طبيعة الوفاة. لكن الفرضية الأكثر مصداقية، وأكرر إنها فرضية، تميل للاغتيال السياسي وليس إلى حادث عرضي. ومع ذلك، في ظل سيادة القانون، يظل التأكيد القاطع على الطبيعة الإجرامية للوفاة بعيد المنال. في عام 1953، وفي الذكرى الـ50 لرحيل زولا، نشر جان بيديل، الصحفي في “ليبراسيون”، سلسلة من المقالات حول الظروف المحيطة بوفاة الكاتب. ومع ذلك، لم تستند العناصر في المقال إلا لشهادة شفهية، دون أي دليل كتابي يدعمها. ومن المهم التذكير أنه في دولة القانون والعدالة مثل فرنسا، تظل كل هذه المعلومات مجرد تخمينات بغياب أيّ تحقيق رسمي. على الرغم من أنّ آلان باغيس أجرى تحقيقًا شاملاً في قضية بورونفوس، من شأن أي تأكيد صارخ على اغتيال زولا التناقض مع معتقدات الكاتب نفسه، وهو الذي يقول إنّ “الحقيقة تتحرك ولا يكبحها شيء”. وبالتالي، لا تزال الحقيقة المحيطة بوفاته بعيدة المنال. وسيرافق الغموض وفاته على الدوام وهذا قد يزعج العديد من المؤرخين والصحفيين الراغبين بتأكيد نظرية الاغتيال. ومع ذلك، سيمثل مثل هذا الاستنتاج دون دليل خيانة للتاريخ.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع ذات صلة :

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us

Skip to toolbar