الولايات المتحدة وإيران والمظاهر الخدّاعة

كتب David Hale لـ”This Is Beirut”:
يُخيّل لمن يتابع تصريحات طهران وواشنطن حول المحادثات النووية أنّ الأمور تسير على خير ما يرام. انطباع مدروس لا يمكن توصيفه إلّا بالطبيعي: القادة الإيرانيون يتوقون لدفع الولايات المتحدة لمفاوضات طويلة الأمد للظهور بمظهرٍ عقلانيّ وتجنّب أي عواقب إضافية للمواجهة المُشينة مع إسرائيل في الأشهر الـ18 الماضية. ولا ترغب طهران البتّة بانهيار المحادثات بشكلٍ يُعرّض منشآتها النووية لتهديدٍ عسكريّ محتمل. كما أنّ آخر ما تريده هو تقديم تنازلات تعود عليها بالضرر أكثر من الاتفاق النووي لعام 2015، الذي وصفه ترامب في فترة ترشيحه بأسوأ اتفاقٍ على الإطلاق. هاتان الرغبتان الإيرانيّتان ستتعارضان في وقتٍ من الأوقات، ولكنّ ذلك لن يحصل قبل أن تستنتج إدارة ترامب أنها وقعت في فخّ المفاوضات. وبالانتظار، تُراهن إيران على كسب الوقت على أمل أن يتحسّن الوضع وتتأجذل المساءلة، وربّما تعيد بناء دفاعاتها الجوية بحيث تصبح أقل عرضةً للهجوم.
ميزةٌ أخرى تستفيد منها إيران، تَكَشُّفُ بعض الثغرات ونقاط الضعف الأميركية على بعد أسابيع قليلة من بدء المحادثات. أوّلها تتعلّق بالحدّ الأدنى بالخط الأساسي للإدارة. وفي أعقاب الجولة الأولى، صرّح كبير المفاوضين ستيف ويتكوف بأنّ الأمر برمّته يتعلّق بالتسليح، أي بمنع إيران من امتلاك القدرة على تصنيع أسلحة نووية. وبعد مرور 24 ساعة، أوضح أنّ القضية تتعلّق بتفكيك برنامج تخصيب اليورانيوم الإيراني أيضًا. هذا التغيير يعكُس تباينًا بين المتشدّدين والمعتدلين في الإدارة. وعلى الرَّغم من أنّ هذه الأخبار ليست بجديدةٍ للجانب الإيراني، تأتي بالنسبة له كتأكيدٍ مُفيدٍ على ضعف الولايات المتحدة في ما يتعلّق ببعض الأهداف التي قد تستغلّ لاحقًا في المفاوضات. أمّا الثغرة الثانية فأتت بشكل تسريباتٍ صحافيةٍ وتصريحاتٍ من البيت الأبيض ألمحت في الظاهر لاستعجال واشنطن المحادثات من جملة أمور أخرى، لتفادي مطالب إسرائيل بالتحرّك العسكري، وليس الدبلوماسي، بينما كانت اللحظة مواتية. وكأنّ هذه التقارير أكدت تفضيل ترامب التوصل لاتفاق على الرّد العسكري. هذا لا يعني أنّ موقفه لن يتغيّر بالطبع، ولكن في الوقت الحالي يبدو أنّ فكرة عدم توافق ترامب ونتنياهو حول كيفية التعامل مع البرنامج النووي الإيراني، قد تُريح الإيرانيين بعض الشيء. ويذكّرنا ذلك ببعض الثغرات التي فرّقت بين القادة الأميركيين والإسرائيليين في عهديْ أوباما وبايدن. ولا يفوت الإيرانيين كيفية استغلال مثل هذه الخلافات. ولا شكّ أن دونالد ترامب شخص قوي وغير متوقّع، وهو أمر قد يكون مفيدًا جدًا في سياق التفاوض. ولكن، طالما أنّ سلوك الإدارة الأميركية يعكس رغبةً واضحةً وملموسةً في التوصّل إلى اتفاقٍ، ستستمر إيران بالانخراط في اللعبة من دون أن تقدم أيّ تنازلات حقيقية.
ولعلّ ما يبعث على الأسى بشكلٍ خاصٍّ هو تخلّي الإدارة الأميركية عن الرّبط بين المُحادثات النووية وسلوك إيران الإقليمي وطموحاتها. ربّما تفترض حسابات واشنطن أنّ الإسرائيليين أثبتوا قدرتهم على التعامل مع وكلاء إيران، وبالتالي يجب على الولايات المتحدة التركيز حصرًا على الملف النووي. وإذا صحّ هذا الافتراض، فسيكون خطأً استراتيجيًا وفرصةً ضائعةً. وصحيح أن قدرات حماس وحزب الله تراجعت، لكنّهما لم يُهزما بعد. ولترسيخ هذا التحوّل في موازين القوى بشكلٍ مستدامٍ، ينبغي على الولايات المتحدة مواصلة الضغط على طهران. هناك بالفعل في واشنطن من ينتقد وتيرة التّقدم في مسألة نزع سلاح حزب الله شمال نهر الليطاني في لبنان، ومع ذلك لا يحدّد المُنتقدون بالضبط كيف يمكن لدولةٍ لبنانيةٍ لا تزال ضعيفةً أن تواجه حزب الله، في الوقت الذي يحتسي فيه المسؤولون الأميركيّون الشاي مع نظرائهم الإيرانيين، متجاهلين ملف المشرق العربي بشكلٍ واضح. وبطبيعة الحال، يتوجّب على المسؤولين اللبنانيين لعب دورهم في استعادة السيادة واحتكار الدولة للسلاح… الاحتكار الذي فُقد قبل نحو ستّين عامًا مع دخول حركة فتح إلى لبنان. لكن لا يمكن للمسؤولين والمعلّقين الأميركيين التظاهر فجأة بأنّ هذه مسألة داخلية لبنانية بحتة. علينا نحن أيضًا القيام بدورنا وهذا يتضمّن إيصال رسالةٍ واضحةٍ للإيرانيين مفادها باستحالة التوصل لأي اتفاق مع واشنطن ما لم يتوقّف وكلاء إيران العرب عن العمل خارج إطار الدول، والتلويح بالعواقب التي لا تقتصر على حزب الله، بل تطال طهران نفسَها. أمّا تجاهل ترابط الحقائق في الشرق الأوسط فلا يخفي تلك الروابط الخطيرة أبدا، بل يزيدها حدّة.
إنّ التوصل لاتفاقٍ نووي قابلٍ للتحقّق مع إيران ويعالج مشكلة الصواريخ وتخصيب اليورانيوم مهمة صعبة، وتتطلب فريقًا دبلوماسيًا وتقنيًا مُخضرمًا يمتلك خبرةً ومعرفةً لا تقلّ عن تلك التي يتمتّع بها الطرف الإيراني. كما يتطلّب قدرًا عاليًا من الانضباط لضمان عدم تمكن إيران من رصد واستغلال الانقسامات الداخلية الأميركية. بالإضافة إلى ذلك، يجب الاعتراف بأنّ أي اتفاق فارغ لا يعالج سلوك إيران الخبيث في المنطقة، لن يعدو كونه أكثر من اتفاقٍ هشٍّ وغير مُستدام. فالاتفاق النووي ليس مسألةً تقنيةً فحسب، بل يتطلّب مناخًا إقليميًا جديدًا لا يسمح فيه لإيران بالاحتفاظ بأدوات نفوذها ومساراتها التي تستغلّها لتهديد شركاء واشنطن العرب والإسرائيليين ونشر الفوضى من بغداد إلى بيروت ومن غزّة إلى اليمن. ويكمن التحدي الحقيقي في إدراك واشنطن بأنّ النجاح يتطلّب الضغط إلى جانب التفاوض بالإضافة إلى الصبر والدبلوماسية الماهرة التي لا تغفل أيًّا من جوانب التهديد الإيراني.