الانتخابات البابوية والتحديات المعاصرة

ترجمة هنا لبنان 15 أيار, 2025

كتب Charles Chartouni  لـ”This Is Beirut”:

يعدّ انتخاب روبرت فرنسيس بريفوست أسقفًا لروما مؤشرًا بالغ الأهمية على قدرة الكنيسة الكاثوليكية على تجديد مسيرتها على مدى أكثر من ألفي عام منذ التأسيس، وعلى تجدد رؤيتها الدينية بما يتلاءم مع تحديات الحداثة والعولمة. وليس ذلك بجديد على الكنيسة التي اعتادت عبر تاريخها الطويل، تنويع مناهجها اللاهوتية وأشكال تنظيمها الداخلي، وهو ما وثقته في مراحل متعددة من تاريخها بدءًا من الكريغما التأسيسية (إعلان الإيمان) بالاستناد لنصوص العهدين القديم والجديد، مرورًا بتفسيرات كبار آباء الكنيسة الذين كتبوا بلغات مختلفة (اليونانية واللاتينية والسريانية والقبطية والأرمنية) وصولًا إلى التأثيرات الفكرية الحديثة مثل النقد التفكيكي والنزعات التي تجاوزت التفكير الميتافيزيقي التقليدي.

وقد أسهمت المجامع الكنسية الستة الكبرى، التي جمعت بين مختلف الكنائس، في صياغة رؤية موحّدة للرسالة المسيحية وسبل رعاية المؤمنين. فالكنيسة في جوهرها كنيسة مسكونية جامعة، تعكس في طبيعتها تنوعًا ثقافيًا وحضاريًا واسعًا، وتحمل بُعدًا تبشيريًا وانفتاحًا عالميًا. ويستند هذا البعد إلى الوصية التأسيسية التي دعا فيها المسيح للتبشير بالإنجيل في كل أنحاء العالم (مرقس 16:15)، كما تجسّد في العنصرة، إذ فهم المجتمعون لغات الرسل بوحي من الروح القدس، في إشارة رمزية إلى عالمية الرسالة وتعدد لغات وثقافات من يتلقونها (أعمال الرسل 2:4–28).

وعبر العصور، تطوّرت العلاقة بين عالمية رسالة الإنجيل وتجسّدها في الواقع الكنسي، حيث تشكّلت القناعات العقائدية من خلال الجهود الفكرية واللاهوتية التي قدّمها آباء الكنيسة والمدارس اللاهوتية المختلفة، بما يعكس الظروف التاريخية والخصوصيات الثقافية المتنوعة للكنائس. وتحظى كنيسة روما بمكانة مرجعية بين الكنائس القديمة، نظرًا لارتباطها برسالة بطرس الرسول، الذي أسند إليه المسيح دورًا أساسيًا في تأسيس الكنيسة، كما ورد في قوله: “أنت هو المسيح ابن الله الحي… أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي…” (متى 16:16–18). ويُعدّ هذا النص إعلانًا تأسيسيًا يُعطي لروما أولوية دينية لا ينبغي الخلط بينها وبين الاعتبارات التاريخية العابرة.

واضطلعت كنيسة روما بدور محوري في تشكيل ملامح الحضارة الأوروبية وهويتها الثقافية والسياسية. ولا يمكن فهم التاريخ الأوروبي، سواء في عصوره الوسطى أو الحديثة والمعاصرة، بمعزل عن تأثير الكنيسة في بناء النظم السياسية، وتأسيس التقاليد القانونية وتطوير الفكر الفلسفي واللاهوتي بالإضافة إلى مساهماتها البارزة في مجالات التعليم والفنون والأدب والعلوم، فضلًا عن دورها الجوهري في إرساء مبادئ العدالة الاجتماعية وتوجيه الاقتصاد نحو أبعاد أخلاقية. وبالتالي، ليس من المستغرب أن تحظى المؤسسة البابوية اليوم باهتمام واسع، على الرغم من كل التحديات البنيوية والأخلاقية التي يواجهها النظام الكهنوتي. فالكنيسة الكاثوليكية لا تزال تؤدي دورًا جامعًا ضمن الغرب وعلى مستوى العالم، وقد برزت مساهماتها في السنوات الأخيرة في مجالات حيوية مثل التنمية الاجتماعية والاقتصادية والتعليم والوساطة في النزاعات والدعوة إلى العدالة البيئية وتعزيز الحوار بين الأديان والدفاع عن كرامة الإنسان وحقوقه.

لقد مثّل رحيل البابا فرنسيس لحظة تأمل عميقة على مستوى العالم، لما حملته رسالته من دعوة إلى الرحمة والعدالة والشمولية، لاسيما في القضايا البيئية. وجاء انتخاب البابا الجديد، لاون الرابع عشر (روبرت فرنسيس بريفوست)، ليواصل هذا المسار الإصلاحي الذي بدأ مع المجمع الفاتيكاني الثاني، وتبنّته لاحقًا نخبة من اللاهوتيين المجدّدين أمثال هانز كونغ وكارل راهنر ووييف كونغار وهنري دو لوباك. وقد اختار البابا الجديد اسم “لاون” في إشارة رمزية تربطه بالبابا لاون الثالث عشر، الذي أرسى دعائم التحديث الكنسي في زمن التحولات الكبرى التي فرضتها الثورة الصناعية. ولا تقتصر مؤهلات البابا الجديد على أصوله الأمريكية والبيروفية، فهي تقوم أيضًا على مسيرته الطويلة في الخدمة الكنسية، حيث شغل منصب الرئيس العام لرهبنة القديس أوغسطينوس، ثم خدم كأسقف في البيرو، قبل أن يُعيَّن كاردينالًا وعضوًا فعّالًا في دوائر الفاتيكان العليا.

إن ما يتميز به البابا الجديد من تواضع ورحمة وخبرة رعوية عميقة جعله خيارًا طبيعيًا لقيادة الكنيسة في هذا العصر الذي يشهد تحولات جذرية. فهو لا يُعد مجرد خلفٍ للبابا فرنسيس، بل يُنظر إليه كامتداد حقيقي لنهجه، وكجسر يربط بين القارات والثقافات. غير أن الطريق أمامه لا تخلو من التحديات الكبيرة، من بينها إصلاح الهيكل الإداري للكنيسة وتجديد الرؤية اللاهوتية بما يتلاءم مع التغيرات العميقة التي يشهدها فهم الإنسان لذاته والعالم من حوله. كما يتعيّن عليه تعزيز مبدأ المجمعية في اتخاذ القرارات والتصدي للانتهاكات الأخلاقية والمالية التي أضرت بسمعة الكنيسة إلى جانب توسيع حضور الكنيسة في ميادين السلم والعدالة البيئية والاجتماعية والتعليم والصحة. ويتطلب ذلك أيضًا صياغة خطاب أخلاقي جديد، أكثر انسجامًا مع واقع التعددية والاختلاف الذي يطبع عالم اليوم.

ولم يقتصر جمال الطقس الليتورجي الروماني الذي شهدناه مؤخرًا على مجرّد احتفال ديني، بل كان أقرب لاستعارة عميقة تعبّر عن بحث الإنسان المستمر عن المعنى في عالم طغت فيه النزعة المادية (التشييء) على حياة الأفراد والمجتمعات. في عظته الأولى بتاريخ 9 أيار/مايو 2025، قال البابا لاون الرابع عشر إن ثمّة بيئات متشككة يصعب فيها التبشير بالإنجيل أو الشهادة لحقّه، لأن الناس يفضّلون الاعتماد على مصادر أمان أخرى، كالتكنولوجيا أو المال أو النجاح أو السلطة. في مثل هذه السياقات، يُقابل المؤمنون أحيانًا بالسخرية أو الرفض أو الازدراء، أو في أفضل الأحوال بالتسامح المشوب بالشفقة. لكن هذه الأماكن هي تحديدًا تلك التي تحتاج بشدة إلى الرسالة التبشيرية للكنيسة.

وربط البابا فقدان الإيمان للأسف بفقدان المعنى في الحياة، وإهمال الرحمة والانتهاك الصادم لكرامة الإنسان وأزمات الأسرة وغيرها من الجراح العميقة التي تنهش المجتمع. بمعنى آخر، قدّم البابا رؤية نقدية وإنسانية لحال العالم المعاصر، وأكد على أنّ الطقس الكنسي ليس مجرد شكل بل هو انعكاس لمعنى روحي عميق يُقاوم فراغ الحياة الحديثة ويدعو إلى استعادة القيم الجوهرية للإيمان، الرحمة، والكرامة الإنسانية.

ويعكس رحيل البابا فرنسيس وانتخاب البابا لاون الرابع عشر توق الإنسان العميق إلى الروح والمعنى، ويجسّدان استمرار تقليد روحي طويل يحاول أن يجيب عن أسئلة العصر. فالخدمة التي قدّمها البابا فرنسيس، وتلك التي استهلها البابا لاون، تبدوان كصفحتين من كتاب واحد، تتكاملان وتتناغمان في رؤيتهما. البابا الجديد لا يفتتح عهدًا من القطيعة، بل يبني على ما بدأه سلفه في مسيرة إصلاحية تنبع من القلب وتخاطب ضمير العالم.

بروح أوغسطينية تتبع اليسوعية، قدّم البابا لاون الرابع عشر نفسه حاملًا لرسالة تتجدد ولا تنقطع، تبحث عن الإنسان وسط ضجيج العصر، وتعيد بعث الإيمان في زمن تتوارى فيه القيم خلف المال والقوة والنجاح. إنها بداية فصل جديد في قصة كنيسة تسعى لأن تبقى شاهدة للحق والرحمة في عالم سريع التغير.

وفي عظته الأولى، حيّا البابا المؤمنين المتجمهرين في بازيليك القديس بطرس بتحية دافئة: “السلام معكم جميعًا!” وحملهم رسالة: “السلام معكم جميعًا! أيها الإخوة والأخوات الأحبّاء، هذه هي أول تحية للمسيح القائم من بين الأموات، الراعي الصالح الذي بذل حياته في سبيل قطيع الله. وأرغب بدوري أن تدخل هذه التحية المفعمة بالسلام إلى قلوبكم، وأن تبلغ بيوتكم، وكل إنسان أينما كان، إلى جميع الشعوب، إلى كل أرجاء الأرض” (8 أيار 2025). القداس انتهى وأبواب العالم مفتوحة.. انطلقوا في رحلة الخدمة والمحبة!

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع ذات صلة :

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us