الإنكار على خطى الصحّاف

ترجمة هنا لبنان 15 حزيران, 2025

كتب Johnny Kortbawi لـ”This Is Beirut”:

إبان الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، لم يكتفِ وزير الإعلام العراقي آنذاك محمد سعيد الصحاف، بإطلاق التصريحات، بل تميز لدرجة استحال معها ظاهرة عالمية. وسجل الصحاف علامة فارقة لناحية انتهاج اللهجة الحادة وإطلاق نبرة التحدي بالتوازي مع الإنفصال التام عن الواقع.
في الذاكرة العالمية، الصحاف ليس مجرد صفحة طويت من تاريخ العراق، بل هو أقرب إلى مدرسة قائمة بحد ذاتها في فنّ الإنكار.. عقليّة متجذّرة يتقمّصها مسؤولون لا يعدّون ولا يُحصَون، في أنظمة ترفض الإعتراف بالحقيقة.
مفصولون عن الواقع، يصرّون على العيش في فقاعة الوهم.. ويتصرفون كما لو أنّ الزمن توقّف… وكأنّ الخراب المحيط بهم مجرد خلفية مسرحيّة لبطولاتهم الـ”دون كيشوتية”.
اليوم، بعد مرور عقدين من الزمن، يبدو أن وزير الإعلام اللبناني بول مرقص يحاول بث الحياة في إرث الصحّاف.. فها هو يتقمص دور “حارس الرأي العام” ومراقب الأخلاق، في زمن لم يعد فيه أحد بحاجة لوصاية. وها هو يُملي على الناس ما يجوز وما لا يجوز، بناءً على “أدوارهم الاجتماعية”، وكأنّه مندوب أخلاقي في جمهورية مثالية لا وجود لها إلا في خياله.
أليس ذلك الوزير هو نفسه الذي حاول تمرير تعيينات في تلفزيون لبنان من دون الرجوع للقوى السياسية الأساسية، ليُمنى قراره بسرعة الإلغاء؟ أليس ذلك الوزير هو نفسه الذي صمت عن التهديدات العلنية التي طالت صحافيين ومؤسسات إعلامية من فلول ما يُعرف بـ”محور المقاومة”؟ أليس هو نفسه الذي لا يرى اليوم حرجًا في التحذير من التفاعل أو الرد على شخصيات إسرائيلية عبر وسائل التواصل الاجتماعي تحت طائلة خرق القانون اللبناني؟ تكشف هذه المفارقات ازدواجية المعايير، وتفضح أولويات لا تمتّ بصلة لحرية التعبير ولا لكرامة الدولة.
المأساة الحقيقية هي أنّ المجتمع الدولي يعتبر أنّ مرقص والحكومة التي تقف خلفه، يتعاملون بإهمال فاضح مع ملف نزع سلاح حزب الله وسواه من الفصائل المسلحة. وعلى الرغم من الرسائل الحادة، التي وجهها المبعوثون والسفراء الأجانب شفهيًا وكتابيًا، لم يسجل أيّ إجراء إصلاحي أو تحرك فعلي. وبدلًا من مواجهة هذه الضغوط، يتمسك الوزير بممارسات تقييدية تطال المواطنين اللبنانيين أنفسهم، فيمنعهم من مجرد التفاعل مع شخصيات إسرائيلية على وسائل التواصل، وكأن ذلك كافٍ لحماية لبنان من العواصف المحيطة به.
في زمن تتسارع فيه وتيرة التطبيع مع إسرائيل في المنطقة، يصر وزير الإعلام اللبناني على التصرّف كشرطي أخلاقي من حقبة “الممانعة” القديمة، على الرغم من أنّ خلفيته الشخصية لا تمتّ لتلك الأيديولوجيا بصلة حقيقية. والمثير للسخرية أنّ مواقفه غير نابعة من قناعاته بقدر ما هي انعكاس لتأثير مستشاريه، الذين يمسكون بخيوط قراراته أكثر مما يفعل هو نفسه.
وبينما استهلت الوكالة السورية الرسمية نشر محتوى باللغة العبرية، ينشغل وزير الإعلام اللبناني بدور “شرطي الهواتف المحمولة”، مانعًا المواطنين من الدخول في مناقشات رقمية مع شخصيات مثل المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي باللغة العربية أفيخاي أدرعي، ومن هم على شاكلته.
لكن في هذه المعادلة، المزعج فعلاً هو التناقض الصارخ مع نهج الرئيس جوزاف عون. فمنذ لحظة توليه المنصب، حاول الرئيس عون التأسيس لخطاب جديد يتجنّب ترهيب الصحافيين والكفّ عن اجترار شعارات 1948. وفي بدايات عهده، استقبل الصحافية ليال الاختيار، التي “جرمها” البعض لمجرد إجرائها مقابلة مع أدرعي على شاشة “العربية”.
أما اليوم، فالوزير المقرّب من الرئيس نفسه يتصدّر عودة مقلقة إلى الرقابة الاستباقية وملاحقة مستخدمي وسائل التواصل. هكذا تعود “مدرسة الصحّاف” إلى الحياة.. المنطق القديم نفسه.. في قالب رقمي عصري للإنكار والتهويل والقمع وتضليل الرأي العام.. باسم الوطن!

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع ذات صلة :

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us