استباق الأزمات واستشراف العبر: “لن تقع حرب طروادة!”

كتب Charles Chartouni لـIci Beytouth:
لو أن الدبلوماسية الغربية نهلت العبر من مسرحية جان جيرودو الشهيرة، “لن تقع حرب طروادة!” (1935)، لاختلفت الأمور ولتمكّنت من استلهام نهجٍ مختلفٍ، يستبق الكوارث التي أطلقت شرارة الحروب الدامية في الشرق الأوسط منذ هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. ولكن منذ ذلك الحين، لم يسجّل أي جهد جدّي لاحتواء الانهيار الأمني المتسارع… لا شيء عدا الخطب الأخلاقية المكرّرة والمواقف الزائفة التي تدّعي السلمية من دون أي ترجمة ملموسة على الأرض. سياسة الانتظار والترقّب لا تعدو كونها أكثر من امتدادٍ لإرثٍ ثقيلٍ من التردّد والجمود الذي أجهض فرص الوساطة الحقيقيّة وأحبط طريق السلام مرةً تلو الأخرى.
الاتهامات الأحادية لإسرائيل أتت لتغطّي، تحت قناع النفاق، بقايا التعصّب المُعادي للسامية في الأوساط اليسارية الغربية، متجاهلةً أهداف حماس الجلية واستغلالها الدنيء للمدنيين الفلسطينيين وتجريدهم من إنسانيتهم لتوظيفهم كدروعٍ بشرية. أمّا فرضيات النقل والتفريغ فليست أكثر من ذرائع لتبرير الجرائم وللتهرّب من المسؤولية، في وقتٍ يستلزم إطلاق عملية دبلوماسية شاملة لوقف الحرب فورًا، واستسلام حماس من دون شروط وإطلاق سراح الرهائن المحتجزين وتسليم إدارة القطاع إلى جهاتٍ قادرةٍ على الحكم الرشيد.
المسار العسكري الحالي ما هو إلّا تتويج لسياسات الانسحاب والتخلّي التي سادت منذ فشل اتفاقيات أوسلو والربيع العربي وتعثّر المفاوضات النووية واندفاع النظام الإيراني عبر استراتيجيته المعروفة بـ”المنصات المتكاملة” وآثارها المدمرة على مستوى شامل. وبفعل هذه السياسات، انتشرت الحروب الصغيرة وتعاظمت الانكفاءات الأمنية واحتدمت الصراعات.
لم يكن السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلا ذروة وبداية ديناميكية إسرائيلية مضادة، هدفها زعزعة المشهد الجيوسياسي برمّته، ووضع حدٍّ للسياسات التخريبية في ساحة جيوسياسية مُمزقة… لقد وضع تدمير “المنصات العملياتية المُتكاملة” حدًّا لاستراتيجية النظام الإيراني في زعزعة الاستقرار والتخريب في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وهذه هي المرحلة الأخيرة في رحلة إنهاء حقبة زعزعة الاستقرار ومؤشراتها الإيديولوجية والجيوستراتيجية.
ومع تلاشي هيمنة التيارات الإسلامية المختلفة، وانحسار الحركات الفلسطينية المتطرّفة وتهاوي الإيديولوجيات القومية والعروبية والإسلاموية، يبرز أفق جديد يتمثّل في مفاوضات بين دول، يُهيمن فيها الحديث عن السيادة وإدارة التعدّدية والحوكمة الاقتصادية والإصلاحات الاجتماعية والبيئية. لقد أعادت السياسة الإسرائيلية صياغة المُعادلة الاستراتيجية في الشرق الأوسط، وكشفت زيف الإيديولوجيات وقضت على المخاوف التي غذّت بمبالغتها الحروب الإقليمية وارتهنت الساحتان الإقليمية والدولية.
وفي هذا السّياق، تمثل الحرب ضدّ إيران مهمةً شاقةً ضمن مسلسل التصفية التدريجية لمنصات النظام الإيراني، وسيؤدّي هذا المسار حتمًا إلى تفكيك النظام الإيراني وإلغاء ثوابته الاستراتيجية غير القابلة للقياس.
كما لا يمكن تصوّر هذه الحرب إلا في إطار سيناريو انقلاب جيوستراتيجي جذري. فهي لا تقتصر على تدمير البنى التحتية للبرنامج النووي العسكري في إطار دفاعي محدود، بل تطمح لإعادة صياغة معايير الأمن والسلام والهوية الوطنية والإقليمية.
وبعيدًا عن حصرها في الرّدع النووي، تُعيد الديناميات الإثنية والقومية إلى مركزية المفاوضات من أجل إعادة صياغة العقود الوطنية والاجتماعية. بالإضافة إلى ذلك، يُعيد تراجع النفوذ التركي والروسي والصيني، الذي استفاد من قدرة إيران على التخريب، الزخم لحركات الاحتجاج الداخلي في تلك البلدان وتبرز خطوط الانقسام التي حاول النظام الإيراني طمسها منذ فترة طويلة.
لا يمكن فصل سياسة احتواء النووي عن تغيير النظام الإيراني وعن المخاطِر التي تهدّد تماسك المجتمع الإيراني. التسلسل الاستراتيجي المجزّأ لم يعد قابلًا للتطبيق في ظلّ التحوّلات الجيوسياسية وتأثيرها العميق في بنية الدولة ومؤسّساتها. ومن ثمّ، مع تسارع التدهور والتصعيد نتيجة التدخل الأميركي المحتّم، بات استئناف المفاوضات بشأن الملف النووي بلا جدوى. وبدلًا من إثارة التضامن، ستُفضي هذه الحرب حتمًا إلى تعثّر ما تبقّى من نظامٍ فقد شرعيته ويعدّ أنفاسه الأخيرة.
وبغض النّظر عن تعدّد مواقف الحياد والتضامن والمعارضة، وصل التآكل في إيران إلى نقطة اللّاعودة، وهذا ما يُفقد المُفاوضين المُحتملين وأهداف التفاوض وأهلية التنفيذ، كلّ المصداقية. هذه الحرب لن تنتهي إلّا بانهيار النظام الإسلامي، وأي سيناريوهات مغايرة مجرّد تكهنات. التخطيط العسكري رفيع المستوى يُبنى على حساباتٍ ومقارباتٍ سياسيةٍ دوليةٍ متعدّدة الأبعاد. وفي قلب هذا الإعصار، ترقد إيران على حافّة التفكّك العميق، تتهاوى أركانها تدريجيًا. وأوهام القوة محاولة للهروب من الواقع المرير وإنكار قاطع للحقيقة… صفحات النهاية الحاسمة تُكتب بالفعل ولا مجال للعودة أو التراجع.
مواضيع ذات صلة :
![]() غارات إسرائيلية عنيفة تهزّ البقاع… ورسائل الضغط الإسرائيلية تتصاعد! | ![]() إسرائيل تضبط أطناناً من الأسلحة في مواقع تابعة لنظام الأسد | ![]() بعد سوريا… هل يوقّع لبنان سلاماً مع إسرائيل؟ |