الشرق الأوسط: 12 يومًا قلبت كلّ الموازين!

كتب Marc Saikali لـ“Ici Beyrouth“:
بالكاد أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب وقف إطلاق النار، حتى أيقن الجميع أن اللعبة انتهت.
اثنا عشر يومًا… هذا كلّ ما تطلّبه الأمر لقلب المعادلات وخلخلة الموازين الجيوسياسية في المنطقة.
اثنا عشر يومًا… هذا كلّ ما تطلبه الأمر لإخراج إسرائيل وإيران من صراع الظلال إلى الحرب العلنيّة بعد أعوام من المواجهات غير المباشرة والإنذارات المُدويّة والخطوط الحمراء المضمرة.
اثنا عشر يومًا… أعادت رسم التوازنات الاستراتيجية في المنطقة. وانتهت للمفارقة بحفظ ماء وجه جميع الفرقاء وعلى رأسهم إيران وبادعاء الجميع للنصر، على الرَّغم من أن الواقع على الأرض يفضح العكس تمامًا.
اثنا عشر يومًا… بدأ عدّادها مع الهجوم الإسرائيلي المُكثّف والمُتواصل والحملة الدقيقة التي استهدفت البُنى التحتية النووية الإيرانية ومواقع الصواريخ الباليستية والمناطق العسكرية الحسّاسة ومراكز الحرس الثوري. وخلال تلك الفترة، نفّذت الضربات بشكلٍ منهجيّ ومدروسّ، وأسفرت عن مقتل نحو عشرين عالمًا ومهندسًا منخرطين مباشرة في البرنامج النووي الإيراني، إلى جانب تدمير المنشآت بالكامل.
هذه المرة، أتت الضربة لطهران، التي اعتادت خوض حروبها بالوكالة وعبر أطرافٍ ثالثةٍ، في الصميم! فحاولت الحفاظ على هيبتها بالردّ العسكري. فأطلقت وابلًا من الصواريخ والطائرات المسيّرة باتجاه إسرائيل بكثافةٍ غير مسبوقةٍ أحيانًا. وعلى الرَّغم من أن منظومة “القبة الحديدية” تمكنت من اعتراض معظم هذه الهجمات، تمكنت بعض الصواريخ من اختراق الدفاعات الجوية، مُخلّفةً خسائر بشرية وأضرارًا مادية، خصوصًا في تل أبيب وحيفا. وهكذا، يمكن القول إنّ الحرب وقعت بالفعل، حتى وإن بقيت محدودة النطاق ومحكومة بسقف مدروس.
ثم جاءت الغارات الأميركية مع دخول طائرات “B-2” الشبحيّة على الخط، محمّلةً بقنابل “GBU” الخارقة، في استعراض قوةٍ لا لبس فيه. حملت الغارات رسالةً واضحةً وحادة النبرة إلى الإيرانيين: “لن تمتلك إيران قنبلةً نووية”. أمام هذه الصفعة العسكرية والسياسية، لم يسعَ قادة طهران، وعلى رأسهم الملالي، الوقوف مكتوفي الأيدي. فأتى الرّد الرمزي مساء الاثنين باستهداف قاعدةٍ أميركيةٍ في قطر، من دون تسجيل أي إصابات. استهداف أشبه بـ”الردّ المدروس” بدرجة عدم التصعيد تجنّبًا لحربٍ إقليميةٍ شاملة.
لقد شكّل هذا “الردّ” الرمزي في جوهره، إقرارًا بانسحاب الجناح المُتشدّد داخل النظام الإيراني (المؤمن بـ”المهدوية الكارثية” والمواجهة الشاملة) لصالح جناحٍ أكثر براغماتية، لا يكترث بما هو أبعد من الحفاظ على النظام نفسِه والبقاء السياسي.
ماذا حصل بالنتيجة؟
كلّ طرف خرج رافعًا رايات النصر.
إسرائيل تمكّنت من تحقيق أحد أهدافها الاستراتيجية الكبرى منذ عقود: شلّ أو تأخير البرنامج النووي الإيراني بشكلٍ ملموسٍ على الأقل.
الولايات المتحدة، أثبتت من جهتها أنّها القوة العظمى الوحيدة بلا منازع.
أمّا في إيران، تمكّن النظام من الصمود وتحمّل الضربات… ردّ بصيغةٍ محسوبةٍ وأعلن أنه ردّ “العين بالعين”… ظاهريًا على الأقل. وبالتالي، قد يعود إلى طاولة المفاوضات من دون الظهور بمظهر المُنهزم التامّ… ظاهريًا…
أمّا الحقيقة فمختلفة تمامًا: لقد مُني النظام بهزيمةٍ صافيةٍ… مكتملة الأركان وذلك لا يخفى على أحد.
المفاوضات ستُستأنف من جديد قريبًا… وفي توقيتٍ غير عبثيّ، توجّه وزير الخارجية الإيراني أمس إلى موسكو.
بوتين، كعادته، لا يُفوّت فرصة للعب دور الوسيط في أزماتٍ صنعها سواه. وهذه المرّة، ربما يلعب دورًا أساسيًا في تسهيل التوصّل لاتفاق جديد… وربما يحفظ الاتفاق المُحتمل لإيران حقّ امتلاك برنامج نووي مدني، على أن تتمّ عمليات تخصيب اليورانيوم خارج أراضيها، وتحت رقابةٍ دوليةٍ صارمة. ولِمَ لا؟ ربما في روسيا نفسها، حليفة الظل ومسرح الاتفاقات الغامضة.
ومع ذلك، يبقى السؤال الجوهري معلقًا: ما مصير النظام الإيراني؟
صحيح أنه صمد أمام العاصفة، لكنه كشف في المقابل عن تصدّعاتٍ عميقةٍ… وقد بدأ يترنّح بالفعل.
وفي إيران، لا دعم شعبي ولا تعبئة وطنية… لا شيء خلا شعب منهك وصامت… تحت ثقل الخيبات.
ومهما طالت الأيام، سيحلّ ذلك اليوم الذي تخضع فيه السلطة للمساءلة والمحاسبة، أمام الشعب وأمام التاريخ.
لقد شاهد الإيرانيون إسرائيل وهي تضرب متى وأينما شاءت… من دون أي رادع، وهم يواجهون اليوم واقع نظامٍ متآكل متوحّش داخليًا ومرتبك خارجيًا. نظامٌ استبدادي يستعيض عن فقد هيبته في الخارج بمضاعفة بطشه في الداخل.
ومن المرجّح أن يحاول جزء من الشعب، المذهول ممّا حصل في الأيام الماضية، النهوض ضدّ النظام من جديد، على أمل أن يلقى هذه المرة آذانًا دولية صاغية!
في حال صمد وقف إطلاق النار، لن تقتصر الخطوة التالية على استئناف المفاوضات حول الملف النووي. الأمر أعمق من ذلك بكثير: الأيام المقبلة ستختبر مصير البنية الإقليمية التي شيّدتها إيران في العقود الثلاثة الماضية. سيُختبر الدور الإيراني في اليمن عبر الحوثيين، وفي العراق عبر الميليشيات الشيعية، والأهم من ذلك، في لبنان عبر حزب الله. وفي لبنان، ستواجه الميليشيا الموالية لطهران صعوبةً في تبرير استمرار امتلاكها للسلاح، ما لم تقرّر توجيه هذا السلاح إلى الداخل اللبناني نفسه… وهنا الخطر الأكبر وحكاية مختلفة تمامًا.
اليوم، باتت أعمدة “محور المقاومة” كلّها على طاولة المساومة… وربّما هذه المرة بهدف تفكيكها، في سابقةٍ لم تسجّل قبل.
المفاوضات المقبلة لن تنحصر بأجهزة الطرد المركزي ومستويات التخصيب، بل ستتطرّق إلى حدود “الإمبراطورية الخفيّة” التي سعت طهران لبنائها على مدى ثلاثين عامًا خارج حدودها.
هي ربّما بداية نهاية التدخل الإيراني الذي حمل الدمار إلى معظم دول الشرق الأوسط، وأغرق الإقليم في نزاعات لا تنتهي.
وربّما نرى غطرسة الملالي قد دفنت أخيرًا تحت أنقاض منشأة “فوردو” النووية.
أمّا الشرق الأوسط… وعلى الرَّغم من أنه قد لا يصبح واحة سلام، أثبت وسط كل ذلك الضجيج، ولو للحظة، قدرته على التصرّف بعقلانية.
لقد صدق ونستون تشرشل حين قال: “إنها ليست النهاية. وليست حتى بداية النهاية. لكن ربما هي نهاية البداية”.
الطريق لا يزال طويلًا…
لكنّنا وضعنا حجر الأساس… فلنكمل المسيرة!.
مواضيع ذات صلة :
![]() إيران لا تريد أن يكون “حزب الله” حزبًا عسكريًا! | ![]() أسعد بشارة لـ”هنا لبنان”: إيران خرجت أضعف من الحرب… وعلى الدولة اللبنانية استعادة زمام المبادرة | ![]() السنيورة استنكر هجوم إيران على قطر |