مسيحيّو الشرق: آخر حراس الذاكرة!

كتب Marc Saikali لـ”Ici Beyrouth”:
التفجير الانتحاري دوّى هذه المرة في قلب كنيسةٍ في دمشق… خلال قدّاس أحدٍ هادئ، وبين جدران تردّد فيها صدى التراتيل والابتهالات. انقلبت الصلاة المقدسة إلى صرخات، والسكينة استحالت ركاما… 25 روحًا غادرت هذا العالم وتزعزع كيان طائفة تقاوم لتصمد بالكاد في وجه التهميش.
الشرق المسيحي يحتضر… وأنفاس مسيحيي الشرق لا تلفظ تحت وابل من القذائف أو في أتون معارك صاخبة… مسيحيو الشرق يذوون ببطء، في عذاب طويل وصامت، وسط لامبالاة عالمية صارخة. وفي أوروبا ما بعد المسيحية، حيث الكنائس استحالت مطاعم أنيقة وفنادق فارهة، يوصم كلّ من يعبّر عن خوفه على مصير مسيحيي الشرق بالتطرّف أو الرجعية. كيف لا و”موضة” اليوم تكرّس الدفاع عن “الأقليات المرئية” التي تحسم الانتخابات. وكم عسى مسيحيو الشرق يساوون يا ترى في ميزان السياسة؟ أمام حسبةٍ انتخابيةٍ باردةٍ، لا يبدو أنّ لهم أي قيمة تُذكر… مع الأسف.
الغرب يشيح بنظره ويغرق في مستنقع صراعاته وهواجسه، غير مبالٍ بالدفاع عمّن يحملون إرثه الروحي والتاريخي حتى. أما العالم العربي، فلم يُفلح قط أصلًا في تحويل تنوّعه الديني والثقافي إلى مصدر غنى، وترك الأقليات لتذوي وتستنزف بصمت. أما حكام المنطقة فاعتادوا، على غرار “الأقوياء” مثلهم، التكيّف مع الفراغ… ومع الصمت واللامبالاة.
وللتذكير، كان المسيحيون يشكلون في مطلع القرن العشرين، 10% من سكان المشرق (لبنان وسوريا والعراق والأردن وفلسطين وإسرائيل). أما اليوم، فلم يتبقَّ منهم سوى 2.5 مليون من أصل 105 ملايين نسمة أي ما يعادل 2.3% فقط.
وبعد مجزرة العراق الصامتة، دقّت ساعة سوريا لتكمل قصة الإنهيار. فماذا بعد سوريا؟ هل يحلّ دور لبنان؟
وتيرة السقوط تتصاعد منذ عقدين، والدراسات دقّت ناقوس الخطر. دراسة صادرة عن مركز “بيو” للأبحاث في 9 حزيران 2025، بيّنت أن عدد المسيحيين في العراق قارب 1.5 مليون عام 2003، قبيل الغزو الأميركي. أما اليوم بالكاد يتراوح عددهم ما بين 150 و 200 ألف. انهيار بنسبة 90٪ خلال جيل واحد. المسيحيون قُتلوا وهُجّروا ورُوّعوا. لم تُعمّر بعض قرى سهل نينوى من جديد قط، بينما ودّعت أخرى آخر أبنائها. وهناك، خفتت التراتيل والصلوات… ولم يبقَ شيء إلا الصمت.
وها هي سوريا تتبع المسار الكابوسي نفسه: قبل العام 2011، قُدّر عدد المسيحيين السوريين بنحو 1.5 مليون. أما اليوم فلا يتعدّى عددهم 300 ألف. وفي الأحياء التي شكلت ذات يوم معقلًا للمسيحيين في حلب وحمص ودمشق، لم تعد الأجراس تقرع… وإن قرعت فإيذانا بتشييع الموتى.
ما نشهده اليوم لا يختزل بأزمة دينية، إنه أقرب إلى محوٌ تدريجي وممنهج لجزءٍ ثمينٍ من ذاكرة البشرية.
مسيحيو الشرق ليسوا مجرد طائفة… إنهم شهود التاريخ الأوائل، وحراس الحياة المسيحية الأولى.
زوالهم لا يعني انقراض طائفة فحسب، بل اندثار إرث إنساني عالمي.
الأديرة السورية… القرى الآشورية والليتورجيا المارونية… كلها كنوز حية.
في الموصل ودمشق، صلّى المؤمنون في كنائس أقدم من كاتدرائيات أوروبا.
وفي معلولا، لا يزال الناس ينطقون بالآرامية… لغة المسيح!
في قرقوش وبرطلة وصدد… صمدت هذه الطوائف في وجه الغزوات والمجازر والمغول والحروب. ومع ذلك، لم تصمد في وجه اللامبالاة والكراهية المنهجية.
وفي لبنان، حيث آخر ما تبقى من هذا المعقل في الشرق، يصرّ البعض على وهم الحصانة ويظنّ أن الجغرافيا تقي الانقراض. وكأن أي شيء قادر على وقف زحف التآكل والتهجير.
المسيحيون كانوا يشكلون 55٪ من سكان لبنان وفقًا لآخر إحصاء رسمي يعود للعام 1932. أما اليوم، فلا تتجاوز نسبتهم 35٪، وسط انخفاضٍ حادٍّ في معدلات الولادة وموجات الهجرة المتزايدة. هذا من دون احتساب وجود نحو 2.5 مليون لاجئ سوري، غالبيتهم من المسلمين.
ما نشهده ليس مجرد نزوح جماعي، بل اقتلاع لجذور المسيحية الحيّة أمام أعيننا.
على هذه الأرض… تردّدت كلمات الأناجيل للمرة الأولى.
هنا، استُشهد الآباء الأوائل… وهنا تأسّست الكنيسة، وازدهرت الأديرة المعلّقة في قلب الصحراء.
يكاد هذا الإرث ينهار اليوم… ويتحوّل إلى مجرّد أطلال أو ذكريات بعيدة تُروى.
لم تتبقَّ سوى أصوات قليلة: كاهنٌ في دمشق… راهبةٌ في حمص… أسقفٌ في زحلة، وثلة من العائلات الصامدة في أربيل.
هؤلاء هم آخر الحراس. لا يصمدون بسذاجة، بل بإيمان عنيد ومتجذّر.
كلٌ منهم يُجسّد ألفي عام من التاريخ.
ولكن… إلى متى؟
إذ يخفت صدى القنبلة المدوّية في قلب كنيسة دمشق، تتعرّى الحقيقة المهولة: إن بقيت الأمور على حالها، قد يصبح مسيحيو الشرق قريبًا… كما النساطرة في آسيا أو الكاثاريين في أوكسيتانيا، مجرّد أسطورة.
وحينها، لن تبدو كنيسة مار إلياس سوى ذكرى ضمن قائمة طويلة من أطلال الذاكرة الصامتة.