إسرائيل تستهدف “العصب المالي” لحزب الله

ترجمة هنا لبنان 28 حزيران, 2025

كتبت Natasha Metni Torbey لـ”Ici Beyrouth“:

بينما يرزح الجنوب اللبناني تحت وطأة الغارات الجوية والمسيّرات الإسرائيلية، تتكشف حرب أخرى لا تقل خطورة ولو أنها تدور بصمت… حرب مالية دقيقة تستهدف العصب الاقتصادي للحزب، بموازاة المواجهات العسكرية التقليدية. تلك هي الحرب التي تخوضها تل أبيب ضد شبكات التمويل التي يعتمد عليها حزب الله.
وفي خطوةٍ غير مسبوقة، نشرت القوات الإسرائيلية الأربعاء خريطة تُظهر عددًا من مكاتب الصيرفة اللبنانية، متهمةً إياها بلعب دور محوري في تمويل حزب الله، التنظيم الشيعي المدعوم من إيران. الرسالة صارخة: “لا أحد بمنأى عن الملاحقة، سواء عسكرية أو اقتصادية، في إطار الحرب التي تشنّها تل أبيب على الأذرع المالية والعسكرية لطهران”.

الاستراتيجية المالية الدقيقة
القوات الإسرائيلية أعلنت في بيانها، مسؤوليتها عن مقتل هيثم عبد الله بكري، الذي وصفته بـ “ركيزة البنية المالية لحزب الله” ومدير شبكة “الصادق” للصيرفة. ونُفّذت العملية في جنوب لبنان، استنادًا إلى معلومات استخباراتية، بهدفٍ صريحٍ هو تفكيك ما تسمّيه تل أبيب “البنية التحتية الاقتصادية للإرهاب”، حسبما ورد في البيان.
الإعلان ترافق مع نشر خريطةٍ شاملةٍ تضمّنت أسماء مكاتب صيرفة موزعة بين بيروت والبقاع (تحديدًا شتورا) والجنوب اللبناني، مع اتهاماتٍ بقيامها بدور الوسيط المالي بين طهران والضاحية الجنوبية. ومن ضمن الأسماء المذكورة، “صيرفة مليحة” بإدارة حسين شاهين، “الإنصاف” بإدارة علي شمس وحسن عياش ورامز مكتف، و”يارا للصيرفة” بإدارة محمد بدر بربير. كلّها اليوم تحت مجهر الاستهداف الإسرائيلي.

لا تبدو الخريطة التي نشرتها إسرائيل مجرّد لائحة بل ووفقًا للمراقبين، توحي الخريطة بلائحة اغتيالات تُنفّذ بشكلٍ ممنهجٍ، بعيدًا عن اختزالها بمجرّد أداة دعائية. وهذا ما تؤكّده سابقتان: تصفية الصرّاف محمد سرور، داخل فيلته في بيت مري في نيسان 2024، وهيثم بكري الثلاثاء الماضي بصاروخٍ دقيقٍ. نهايتان عنيفتان… والقاسم المشترك واحد: التورّط في تحويل الأموال لحزب الله.

اقتصاد الظل: هيكل تمويل حزب الله
ومنذ أعوام، دفعت العقوبات الدولية ثم الانهيار الاقتصادي في لبنان منذ عام 2020، حزب الله إلى إعادة ابتكار شبكاته التمويلية. ومع تشديد الرقابة على الحدود إثر تغيّرات سياسية داخلية، توجّهت حركة الأموال إلى الاقتصاد الرمادي، حيث تدور مليارات الدولارات بصمتٍ داخل شبكةٍ من مكاتب الصرّافة العائلية، الخارجة غالبًا عن التنظيم الرسمي.
وحسب تقارير وزارة الخزانة الأميركية، يستند هذا النظام إلى مزيجٍ معقّدٍ من الحسابات المصرفية المجهولة، والشركات الوهمية والمسارات الموازية من تركيا والعراق والإمارات وصولًا إلى روسيا. وفي هذا الإطار، برزت شخصيات محورية مثل بهنام شهرياري، قائد الوحدة 190 في فيلق القدس، الذي اغتيل مؤخرًا في إيران. واقتضت مهمته الأساسية بإدارة حركة العملات الأجنبية وإخفائها، قبل ضخّها في قنوات حزب الله عبر مكاتب صرافة لبنانية.
الحرب ما عادت تُخاض على تلال الجنوب فحسب، بل في الكواليس المالية، في مكاتب مجهولة الهوية تُنقل فيها رزم الدولارات كما تُنقل الأسلحة. هذه الاستراتيجية الجديدة “فعّالة بشكلٍ مخيفٍ”، حسبما أسرَّ خبير لـ”Ici Beyrouth”. وأوضح أنّ “إسرائيل لم تعد تكتفي بقصف منصّات الإطلاق أو مخازن الأسلحة، بل تسعى لتجفيف المصدر الذي يُتيح لحزب الله الاستمرار في القتال. كلّ صاروخ، وكلّ راتب مقاتل، يبدأ بتحويلٍ مصرفي”.
“وتؤكد التصفية السريعة لشخصيتين محوريتين: محمد سرور وهيثم بكري، بما لا يدع مجالًا للشك وجود قائمة اغتيالاتٍ ماليةٍ دقيقةٍ. وللمرة الأولى، لا تستهدف إسرائيل قادة عسكريون أو مهندسي صواريخ، بل محاسبين في زمن الحرب”.

الحوالة: العمود الفقري الخفي للتمويل
وراء مكاتب الصرافة التي تستهدفها المسيّرات، يقبع نظام مالي غير مرئي، أشد تعقيدًا وغموضًا من أن يُدمَّر بضرباتٍ جويةٍ مركزةٍ: إنّه نظام “الحوالة”.
ويسمح هذا النظام التقليدي، المُستخدم منذ قرون في الشرق الأوسط، بتحويل الأموال من دون المرور عبر البنوك. وهو يقوم على الثقة الشخصيّة بين الوكلاء، ويفتقر لأي مسارٍ إلكتروني قابل للتتبّع، ما يمنحه قدرة عالية على الصمود أمام العقوبات والملاحقات القانونية.
ويستفيد حزب الله من هذا النظام عبر شبكاتٍ موثوقةٍ، متجذّرةٍ في النسيج الاجتماعي والمجتمعي، لنقل عشرات الملايين من الدولارات مع تجاوزٍ كاملٍ للقيود التي تفرضها العقوبات المصرفية، حسب وثائق كشفتها شبكة مكافحة الجرائم الماليّة في الولايات المتحدة.
ويُعدّ نظام الحوالة حسب تحقيقات عدّة لوزارة الخزانة الأميركية والأمم المتحدة ومؤسّسات متخصّصة بتعقّب التدفّقات المالية غير المشروعة، أحد الركائز الأساسية لتمويل “حزب الله” على المستوى الدولي. ويستخدم الحزب المدعوم من إيران هذا النظام بشكلٍ ممنهجٍ لنقل الأموال بين إيران والعراق وسوريا ودول الخليج وأوروبا وآسيا وأفريقيا ولبنان، من خلال شبكةٍ مترابطةٍ من مكاتب وشركات، بعضها عائلي، وغالبًا ما تكون مموّهةً تحت غطاء أنشطة تجارية مشروعة.
تقارير صادرة عن مجموعة العمل المالي الدولية ومكتب مراقبة الأصول الأجنبية الأميركي (OFAC) كشفت أنّ بعض مكاتب الصيرفة في بيروت وزحلة والنبطية عملت كنقاط تسويةٍ بين “وسطاء حوالة”، لتصفية الديون بين الوكلاء عبر صفقات تجارية شكليّة أو واردات وهمية أو قروض صورية.
ومن حيث المبدأ، تقتضي الحوالة على حدّ شرح أحد الخبراء “بتسليم المرسِل مبلغًا نقديًا إلى وسيط حوالة محلّي، والذي يرسل أمر التحويل عبر الهاتف أو تطبيقات مشفّرة إلى وسيطٍ آخر في بلدٍ مختلفٍ (تركيا والإمارات وسوريا والعراق وإيران وبلجيكا وألمانيا أو ساحل العاج…). فيتسلّم المستفيد المبلغ هناك، غالبًا من دون أي إيصال أو أي أثر على الورق. ثم تُسوّى الديون لاحقًا بين الوسيطيْن عبر ترتيبات تجارية أو تحويلات مقنّعة.
أمّا في لبنان، فيُعاد توزيع الأموال التي تصل عبر مؤسسة “القرض الحسن”، التي تُعرف بالواجهة المالية لحزب الله، تحت غطاء جمعية خيرية إسلامية. وتستقبل المؤسّسة الأموال من الاغتراب اللبناني، والتي يتمّ نقلها غالبًا عبر نظام الحوالة، لتُصرف لاحقًا على شكل قروض أو رواتب أو استثمارات.
وترى إسرائيل اليوم أن هذه الشبكات، على الرَّغم من مظهرها المدني، لا تقلّ أهميةً استراتيجيةً عن مستودعات الصواريخ، ويبدو أنها مصمّمة على ضربها بعمق.

شركة “CTEX”: رمح الحرب النقدية
من ضمن الكِيانات الرئيسية التي وُضعت تحت المجهر في الحرب المالية ضد “حزب الله”، تبرز شركة الصرافة اللبنانية “CTEX”، وهي واحدة من أبرز مؤسّسات تحويل الأموال في البلاد. واستُهدفت بشكلٍ مباشرٍ من قبل مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC) التابع لوزارة الخزانة الأميركية في شباط/فبراير 2023. ووفقًا للوثائق الصادرة آنذاك، تورطت “CTEX” في تحويل ملايين الدولارات بشكلٍ منتظمٍ إلى لبنان، لتمويل أنشطة الحزب من خلال آلياتٍ خفيّةٍ يصعب تتبّعها.
التحقيقات الأميركية خلصت إلى عمل “CTEX” كقناةٍ ماليةٍ سرّيةٍ لصالح فيلق القدس الإيراني، بتنسيقٍ وثيقٍ مع وكلاء ماليين تابعين لحزب الله. وتشير التقارير إلى أنّ الشركة لعبت دورًا محوريًا في تسوية الحسابات بين وسطاء الحوالة الناشطين في دمشق وبيروت وطهران وبغداد، من خلال تسهيلات في تبييض الأموال اعتمادًا على شركات وهمية وعقود مفبركة وفواتير مضخّمة.
وفي نيسان/أبريل 2023، حدّدت واشنطن، بناءً على مصدر أمني، وجود 52 شركة واجهة على مساحة جنوب أفريقيا وأنغولا وساحل العاج وجمهورية الكونغو الديمقراطية، يديرها ناظم سعيد أحمد، تاجر ألماس لبناني من بيروت، على صلةٍ بشبكات تبييض أموال بلغت قيمتها حوالي 440 مليون دولار ما بين عامَي 2020 و2022.
ووُجّهت تلك الأموال لاحقًا إلى جمعية “القرض الحسن” أو إلى شخصيات مقرّبة من القيادة العسكرية لحزب الله. كما ورد اسم “CTEX” في وثائق تحقيق أوروبية سرية، تُجري في إطارها السلطات البلجيكية والألمانية والسويدية تحقيقاتٍ حول تحويلاتٍ ماليةٍ تقوم بها الجاليات الشيعية في تلك البلدان، لمكاتب صرافة شريكة في لبنان. وكُشف تورّط بعض الوكلاء المرتبطين بـCTEX باستلام تلك الأموال وتحويلها إلى سيولةٍ نقديةٍ، قبل ضخّها داخل شبكات الحزب التمويلية.
في المُحصّلة، يتّضح أن ضرب مكاتب الصرافة أبعد من مجرّد أداة في الحرب الاقتصادية… إنّها استراتيجية إسرائيلية مركزية أضافت الصرافة إلى خريطة ميادين الاشتباك في حرب الظلّ.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع ذات صلة :

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us