الولايات المتحدة وإيران: ما الذي سيحدث تاليًا؟

كتب David Hale لـ”THIS IS BEIRUT“:
بينما ينشغل الإعلام الدولي بمتابعة التطورات بين الولايات المتحدة وإيران هذا اليوم أو هذا الأسبوع، يُغفل ما خفي في الكواليس: الانقلاب الكامل في موازين القوى ضدّ طهران. وبينما تحمل العناوين علامات الاستفهام حول صمود وقف إطلاق النار الذي أعلنه ترامب، يُغفل العديد من المراقبين الحقيقة الأهمّ: إيران تحاول الاستسلام بصمت (من دون أن تعلن ذلك صراحةً) لتجنّب التعرض لهزائم أكثر إذلالًا. أمّا وقف إطلاق النار فسيصمد بلا شكّ، لأن إيران ما عادت تحتمل المزيد، وإسرائيل حققت هدفها المعلن لناحية تقويض إمكانية امتلاك إيران في الوقت الراهن برنامجًا نوويًا عسكريًا. أمّا السّؤال الحقيقي الذي يُطرح فيبقى: ما الذي سيحدث تاليًا على المستوى الاستراتيجي؟
في الماضي، اعتادت إيران ووكلاؤها على ضبط إيقاع الحرب والسلم في الشرق الأوسط. طهران هي التي كانت تُلقي بظلّ مشروعها النووي فوق رؤوس جيرانها. أمّا تهديداتها المستمرّة، مقابل ضعف الردّ الأميركي، فهي التي دفعت العديد من الدول العربية لانتهاج الحذر والمراوغة تجنّبا لـ”استفزاز الوحش”.
ولكن الأمور ما عادت على حالها والمشهد تبدّل جذريًا اعتبارًا من أكتوبر/تشرين الأول 2023. وما حدث خلال ساعاتٍ قليلةٍ في عطلة نهاية الأسبوع الماضي، شكّل نقطة تحوّلٍ حيث وضع الرئيس والجيش الأميركي نقطة النهاية لهذا الواقع القديم، وثبّتا تحوّلًا استراتيجيًا عميقًا في ميزان القوى الإقليمي: الخروج الحتمي لإيران من موقع الهيمنة. واليوم، ما عادت إيران قادرة على الدفاع عن نفسها بفعّالية، ولا على تصدير نفوذها إقليميًا كما في الماضي. خياراتها في دائرةٍ مخنوقةٍ، ولم يتبقَ منها سوى إنهاء الصراع. وربما تحاول كما في الماضي، التواري عن الانظار على أمل تشتيت انتباه واشنطن كالعادة. فتستغل الهدوء لإعادة بناء قوتها في الظلّ، ببطءٍ ولكن بثباتٍ، على أمل العودة من جديد وترهيب الجوار.
السؤال الأهمّ لا يتمحور حول خطوة إيران التالية، بل حول ما ستفعله الولايات المتحدة وشركاؤها لترسيخ هذا التحول الجذري في ميزان القوى؟ إيران تعيش اليوم أضعف لحظاتها منذ العام 1979. لقد تآكلت شرعيّة النظام الديني وسقط المرشد الأعلى وهيكل قيادة الحرس الثوري في أتون الأخطاء الكارثيّة، عاجزين عن الوفاء بتعهداتهم، وعلى رأسها ردع الهجمات والدفاع عن إيران ضدّ العدوان الخارجي. والأسوأ من ذلك، جلبوا العدوان إلى عقر دارهم وتكبدوا الهزائم الفادحة.
بعد كلّ ذلك، يصعب تخيّل قدرة هذا النظام الحاكم على الاستمرار. ومع ذلك، لا ينبغي للقادة الغربيين التحدّث علنًا عن “تغيير النظام”. لماذا؟ بادئ ذي بدء، لا توجد رغبة سياسية حقيقية، في الولايات المتحدة كما في أوروبا، باتخاذ خطوات من قبيل الغزو العسكري أو التدخّل المُباشر الذي يتطلبه مثل هذا الهدف. ثانيًا، سيُمنى مثل هذا السيناريو بالفشل حيث إنّ الغزو الخارجي كفيل بتوحيد الإيرانيين خلف قيادتهم الفاشلة. وإن كان هناك من أمل بتغيير النظام، فلا بدّ أن ينبع من الداخل. وهذا يعني أنّه قد لا يحدث إطلاقًا أو قد يتمّ ببطءٍ شديدٍ لدرجة فقدان السياسيين الأميركيين للصبر والاهتمام.
ومع ذلك، لا ينبغي التراجع. لقد آن الأوان لاتباع استراتيجية النفس الطويل في الشرق الأوسط… استراتيجية صبورة تتطلب استثمار جميع مصادر القوة الأميركية: الاقتصادية والعسكرية والقيمية، بالشراكة مع قوى إقليمية تؤمن بسيادة الدول واستقرارها، من إسرائيل ولبنان إلى الإمارات وسلطنة عُمان. ويجب أن تتيح هذه الاستراتيجية إرساء الاستقرار الكاف في المنطقة، بشكلٍ يسمح للقيادة السعودية بتنفيذ رؤيتها الطموحة لتحويل المجتمع والاقتصاد. وفي هذه الاستراتيجية، تتحوّل الولايات المتحدة من موقع المتفرّج إلى موقع الفاعل الحقيقي في مسار السلام وفي تحقيق تسويةٍ بين إسرائيل ولبنان وإرساء الاستقرار في سوريا. وفي قلب هذه الاستراتيجية، لا بدّ أن تدرك إسرائيل على مستوى الشعب والمؤسسات أنّ سياسة “جزَ العشب” المتكرّرة في غزة، مهما بدت ضروريةً على المستوى القصير، لا تشكل حلًا دائمًا، وأنّه لا بد من اعتماد مقاربة أكثر ابداعًا وعمقًا.
في هذا الواقع الجيوسياسي الجديد، يمكن لإيران، إنْ عزمت على ذلك، أن تلعب دورًا بنّاءً. وقد تدفع الضغوط الكافية من عقوبات وعزلة دبلوماسية والردع العسكري، القادة الإيرانيين إلى التخلّي عن استراتيجيتهم التقليدية التي تقوم على التواري ورفض التنازلات وكسب الوقت لاستعادة قوتهم. وإنْ حدث ذلك، واختارت طهران مصالحة حقيقية مع المشهد المتغيّر في الشرق الأوسط، يمكن للدبلوماسية أن تفلح، ولكن ليس قبل ذلك البتة.
وقد يشمل أي اتفاق مستقبلي محتمل التزامًا إيرانيًا قابلًا للتنفيذ بالتخلّي عن تخصيب اليورانيوم وعن تسليح البرنامج النووي، مقابل السماح باستخدام الطاقة النووية لأغراضٍ سلميةٍ بالاعتماد على اليورانيوم المخصّب المستورد من الخارج. وفي المقابل، تطالب الولايات المتحدة وإسرائيل وشركاؤهم العرب بالتزام إيراني موثوق بوقف دعم الوكلاء غير الدوليين وبوضع حدّ للإرهاب العالمي، مما قد يُفضي إلى اتفاقية عدم اعتداء متبادلة. ولكن الأهمّ من ذلك أنّ مثل هذه الاتفاقات تفقد قيمتها إنْ لم تحافظ واشنطن وشركاؤها على قوة الردع التي أعادها الرئيس ترامب السبت الماضي، بعد سباتٍ طويل.
الدبلوماسية الناجحة والحكمة السياسية غالبًا ما تتطلّب الصبر والدقّة في التوقيت. وهذا ليس الوقت المناسب للتسرّع في عقد الصفقات أو تقديم التنازلات لإيران. لقد حانت ساعة الانتظار ريثما تتجرّع إيران وشعبها عواقب هزيمتهم قبل العودة إلينا وهم مستعدّون للتصالح مع مستقبلٍ قائمٍ على ميزان قوى جديد في الشرق الأوسط.