حالة ارتباك في سوريا

كتب David Hale لـ “This Is Beirut“:
التطوّرات الأخيرة على الساحة السورية أثارت الكثير من الدهشة والارتباك. ففي خطوةٍ جريئةٍ وغير تقليديةٍ، رفع الرئيس دونالد ترامب وإدارته العقوبات عن نظام أحمد الشرع وحركته السلفية “هيئة تحرير الشام” وسوريا نفسها، نزولًا عند طلب القيادتين التركية والسعودية. الخطوة الأميركية أتت من دون شروط أو أدنى جهد تقييمي لطبيعة ونوايا وقدرات السلطة الجديدة في دمشق، وحتى من دون استراتيجية تسمح باستغلال هذا المكسب كوسيلة ضغط. وإنْ أتت هذه الخطوة مفاجئة، فذلك لأن النهج الأميركي التقليدي كان ليَنْطوي على مفاوضاتٍ طويلةٍ قبل تخفيف العقوبات تدريجيًّا وبناءً على شروط، تضمن تقديم المكافآت مقابل الخطوات الإيجابية والعكس في الحالات السلبية. وكان التوصّل لإجماعٍ في واشنطن حول نهج مماثل، ناهيك عن التفاوض مع النظام السوري الجديد، ليستغرق وقتًا طويلًا ربّما يضيّع الفرصة السانحة. ونظرًا لميل فريق ترامب الواضح للصفقات والخطوات الجريئة، ربّما استجاب لطلبات قادة تركيا والسعودية وترك لهم التفاصيل، شرط عدم تجاهل المصالح الاقتصادية الأميركية عند توقيع العقود.
ربّما تلقى هذه الجرأة والخروج بعض الترحيب، لكنّها ليست بديلًا عن فن الحكم والدبلوماسية والحضور. كما أنّ الأحداث التي عصفت بالجنوب السوري الأسبوع الماضي لا بدّ أن تُطلق جرس الإنذار؛ فالاتفاقات والإيماءات السطحية لا تعادل الحلول الفعلية للمشاكل. ومن جملة المشاكل: سلطة الشرع غير المرسّخة خارج حزام المدن السنّية الممتدّ من إدلب إلى دمشق، وافتقار الدولة للسيطرة الكاملة، وعدم تقبّل الأقليات لقاعدة الشرع السلفية/الجهادية والنظر إليها على أنّها مثيرة للخوف. وحتى الأسبوع الماضي، بدا أن السياسة الأميركية تقوم على تجاهل كل ذلك والتركيز على الترويج لاتفاقات أبراهام بصفتها حلًّا نهائيًّا.
ومع ذلك، السياسة الأميركية تجاهلت إسرائيل، حيث لا يُنظر للشرع كشريكٍ بل كتهديدٍ محتملٍ. وعدا عن ذلك، لا يرى القادة الإسرائيليون مؤشرات إلى واقعية أميركية في هذه المرحلة أو ما يتعلق بالأمن والاستقرار في سوريا. كما أنّ القدس غير مطمئنة للطموحات التركية في سوريا. وعلى نحوٍ أكثر إلحاحًا، باتت الاستراتيجية الأمنية الوطنية الإسرائيلية بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول نشطة واستباقية إلى حدٍّ كبيرٍ. وينطوي هذا النهج على تحرّك القوات الإسرائيلية بحريةٍ كاملةٍ في حال لم تمارس الدول المجاورة السيطرة داخل حدودها للحدّ من التهديدات الأمنية لإسرائيل. والحال أفضل بِهذا المنطق، في حال توفّر حلفاء محليّون على غرار شخصية حكمت الهاجري الدرزية في جنوب سوريا. وإلّا، تكفي هيمنة إسرائيل على الأجواء. ومن هذا المنظور، لا تعدو الجهود الأميركية الرامية لتجميع اتفاقات وقف إطلاق النار كونها أكثر من وعود بهدوء موقت. أمّا عن التنمية الاقتصادية في سوريا والاستثمار الأجنبي، فلن يفوق حافز رفع العقوبات عائق الفوضى وغياب مسار موثوق للخروج منها.
الأوان لم يَفُت بعد لوضع سياسةٍ أميركيةٍ جديّةٍ تعالج بعض المشاكل الأساسية في سوريا. ونقطة الانطلاق التحليلية: حلفاؤنا في سوريا يعملون بأهدافٍ متعارضةٍ. وإسرائيل خير مثال، حيث يوضح قادتها تمسّكهم بحرية الحركة وعدم الإيمان بأيّ حلّ طويل الأمد يستند إلى أمثال أحمد الشرع. أمّا الأقل وضوحًا فهو التنافس بين أنقرة والرياض، والذي سيتبلور مع مرور الوقت. فقد أبدى ولي العهد محمد بن سلمان حماسةً لإقناع الرئيس ترامب برفع العقوبات، لأنّ المساعدات والاستثمار يمثّلان أداةً رئيسيةً في السياسة الخارجية؛ وكانت العقوبات ستحدّ من انخراطه في سوريا بشكلٍ يسمح له بقطع الطريق أمام الهيمنة التركية. أمّا الشرع – الذي يدرك ضعفه عين اليقين – فيرى في الاهتمام السعودي نوعًا من التوازن أمام تركيا. فهل تدرك واشنطن أنّ سوريا تتحوّل إلى ساحة تنافسٍ بين حليفين رئيسيَّين – تركيا والسعودية – وليس إلى ساحة تعاون فيما بينهما؟ وهل استوعبت واشنطن بشكلٍ كاملٍ الترابط بين ما يحدث في سوريا ولبنان؟ بالنسبة للبنانيين، المقاتلون السلفيون في سوريا باتوا على الأعتاب؛ وبالنسبة للسلطات السورية، متفجرات حزب الله تُنقل من لبنان إلى أيدي خصومها. وإن لم تُعالَج هذه الفجوات الأمنية بين اللبنانيين والسوريين فورًا، قد تُفشل الهدف الأميركي المتمثّل في نزع سلاح حزب الله وتمكين الجيش والدولة اللبنانية من السيطرة.
إنّ فعّالية السياسة الأميركية تبقى منوطةً بتفعيلها المستمر. وهذا ما يمكن التوصل إليه من خلال ترسيخ الوجود الأميركي الرسمي في دمشق، لتتمكّن واشنطن من تقييم التطورات على الأرض والتأثير فيها. وهذا ما يتطلب عملًا مكثّفًا لفكّ التضارب الذي يظهر على مستوى سلوك وإجراءات الحلفاء الأميركيين، والذي يُفصح عن التناقض. وسيتطلّب ذلك أيضًا الضغط على الشرع ليقطع (كما يفعل على ما يبدو) ارتباطه بجذوره السلفية والعصابات المسلحة التي أوصلته إلى السلطة. وسواء شاءت واشنطن ذلك أم أبت، باتت سوريا اليوم الساحة الرئيسيّة للتنافس والتغييرات في الشرق الأوسط. والتعامل مع هذا الواقع بفعّالية لا يعني خوض “حروبٍ لا تنتهي” من أجل حلم بناء الدول، بل يستدعي جديةً أكبر على مستوى التحليل والانخراط في حلّ النزاعات… في العمق عوضًا عن الاكتفاء بالحلول السطحية.
مواضيع ذات صلة :
![]() رئيس أركان الجيش الإسرائيلي: سنواصل إضعاف ومنع القدرات الاستراتيجية من سوريا وحزب الله | ![]() لبنان ليس سوريا… ولن يكون! | ![]() هدوء حذر في السويداء وسط دعوات دولية للتهدئة… وبارّاك يحذر: سوريا عند “منعطف حاسم” |