باراك: الدبلوماسية في حلقة مفرغة… وكذلك لبنان!

كتبت Natasha Metni Torbey لـ”Ici Beyrouth”:
يكاد يُخيّل لمتابعي المبعوث الأميركي توم باراك أن لبنان على بُعد خطوات معدودة من الخلاص… أو أنه على حافة الهاوية… أو ربما ينتظره المصيران معًا. ذلك أن تصريحات باراك تتأرجح منذ شهور بين التفاؤل والتهديد، أو قد تحمل الالتباس أحيانًا… وفي كل الأحوال، تستمر بالدوران في الحلقة المفرغة نفسها. النغمة ذاتها تتكرّر في كل تغريدة وفي كل تصريح، وقوامها: “نزع سلاح حزب الله واستعادة سيادة الدولة والحوار الإقليمي”. كلمات أشبه بنشيد أو تعويذة يردّدها المبعوث الأميركي بانضباط، من دون أي آثار ملموسة على الأرض. وكأن به يتلو كلما استطاع وبأعلى صوت، خريطة طريق لا يبدو أن أحدًا يريد اتباعها، وباراك ضمنًا.
دبلوماسي في مهمة إدارية
بالنسبة للواء المتقاعد خليل حلو، لا يعدو باراك كونه أكثر من “دبلوماسي في مهمة إدارية. إنه ليس فيليب حبيب في العام 1982ولسنا أمام استراتيجي يزعزع النظام القائم”. حلو شرح في حديث لمنصة “Ici Beyrouth” أن “تصريحاته لا تتخطى القشور السطحية للواقع. فهو يستفيض في الحديث عن السيادة، من دون الغوص في جوهر المشكلة: كيف يمكن استعادة السيادة فعليًا، بشكل ملموس؟” ملاحظة حاسمة. إذ لا يبدو على حد تعبير الخبير أن باراك يفهم آليات عمل المؤسسات اللبنانية.
والأكثر إرباكًا لدى المبعوث الأميركي الخاص، هو خطابه المتقلّب باستمرار. فهو يظهر متفائلًا في بيروت. ثم يستفيض في باريس عن تهديد وجودي. وها هو يمتدح الحوار أمام رئيس مجلس النواب نبيه بري ويعبّر عن رضاه عن نتائج اللقاء. ثم يدقّ ناقوس الخطر أمام سلام. كم تصعب مواكبته! يتحدّث تارة عن أملٍ في اختراق دبلوماسي، ويلوّح طورًا بشبح العقوبات أو بالتصعيد الإقليمي.
يشرح حلو: “لا بدّ من قراءة تصريحاته كترجمة دقيقة للخط الأميركي، وهو الخط الذي يُعتدّ به فعلًا. وهذا ما لم يتغيّر منذ البداية: الأميركيون يبحثون عن الأفعال، لا الأقوال. ولم يروا حتى الآن، سوى الشعارات”.
وتقوم مهمة باراك، وفقًا لمحلل لبناني تحفّظ عن ذكر اسمه، على هدفيْن رئيسييْن: نزع سلاح حزب الله وتطبيع العلاقات مع إسرائيل. فهل هذا طموح؟ ربما أكثر ممّا ينبغي، بالنسبة للبعض… لكنه واقع بالنسبة لآخرين، خصوصًا أن المبعوث الأميركي لم يلقَ حتى الساعة سوى الوعود الجوفاء والمجاملات. ويؤكد المحلل أن “الرئيس اللبناني، جوزاف عون، فوّض الملف إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري. وهذا الأخير ينتظر نتائج الكباش الأميركي – الإيراني. وفي هذه الأثناء، ينتهج الجميع سياسة “الانتظار والترقب”.
الحقّ يُقال إن لبنان لم يعد أولوية، على حد اعتبار بعض المراقبين. والأنظار باتت مسمّرة على آفاق أخرى… سوريا تحديدًا، حيث يكثر الحديث عن إعادة تنظيم الجيش وعن التطبيع مع إسرائيل وعن استثمارات سعودية بقيمة ستة مليارات دولار تم الالتزام بها بالفعل.
وفي هذا السياق، وقعت المملكة العربية السعودية، الخميس الماضي، في دمشق، اتفاقات استثمار وشراكة مع سوريا، بلغ مجموعها 6.4 مليارات دولار. وهي تهدف لإعادة إعمار البنى التحتية وقطاعات حيوية أخرى في بلدٍ مزقته الحرب.
وبالانتظار، يتكدس الغبار فوق الملف اللبناني.
وحتى الساعة، لم تبصر أي مبادرة وطنية جدية النور، ولا وُضعت أي آلية ولا اتُّخذت خطوات ميدانية. لا شيء سوى الخطابات… خطابات رنانة وما أكثر تفرّعاتها من خطط وخرائط ومواعيد ووعود سرعان ما تتلاشى أدراج الرياح.
ولا شك أن الرئيس عون يطالب في تصريحاته، بسيطرة الدولة اللبنانية على السلاح وبانسحاب القوات الإسرائيلية، وهو شرط لا غنى عنه بالنسبة له، لنزع سلاح حزب الله. ولكن هل هذا تفاؤل سياسي – استراتيجي؟ أم تغيير في الموقف؟ أم رهان على وقتٍ سيعيد تشكيل الاستراتيجيات والأفعال والنتائج؟
وفي الفلك نفسه، يدور خطاب رئيس الوزراء نوّاف سلام. وآخر الخطط المطروحة من قبل رئيس مجلس النواب نبيه بري والمبعوث الأميركي خلال زيارته إلى بيروت في تموز/يوليو، أقرب للخطة التدريجية أي “خطوة خطوة”. وتتضمّن هذه الخطة، التي يشاع أنها ستنطلق في بداية آب/أغسطس، مرحلة تقييم النوايا بادئ ذي بدء، تليها سلسلة من التبادلات التدريجية؛ تسليم مستودع أسلحة في مكان ما، وإخلاء تلة في آخر. إنه باختصار التفاوض على الطريقة اللبنانية: بطيء وغامض ورهن كالعادة، بعدة عوامل خارجية.
الخطة المطروحة اصطدمت على غرار سواها من الخطط المتراكمة، بمرارة الواقع. إسرائيل ترفض أي شكل من أشكال التماثل لأنها تعتبر أن حزب الله في موقف ضعف. أما حزب الله، فيرفض التنازل عن أي جزء من نفوذه ما لم تُحسم المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة. وتتردّد في الأوساط الشيعية عبارة: “لماذا نُسلم السلاح وقد تحتاجنا طهران؟”
في الواقع، ليس لأحد أي مصلحة حقيقية بالتحرك. حزب الله يحتفظ بقبضته على القرارات الرئيسية عبر شبكته المؤسسية. الحكومة اللبنانية، رهينة الخوف والغموض، تتجنّب مواجهة الحزب ولا ترغب حتى في التظاهر بالحكم. وباراك، لم يعثر بعد على المفتاح المناسب لكسر الجمود على الرغم من كل جولاته.
ولا يلوح أي تغيير كبير في الأفق، حسب الجنرال حلو، إلّا إذا طرأت معجزة ما. حزب الله لن ينزع سلاحه. الدولة اللبنانية لن تستعيد زمام الأمور. إسرائيل لن تغزو الجنوب لأنها لا تحتاج لذلك، حيث تكتفي بالاغتيالات المستهدفة وبسلطتها على التلال اللبنانية. والعواصم العربية غير متحمّسة أصلًا لإرسال المساعدات، وكيف ذلك بغياب شركاء موثوقين في بيروت.
بانتظار “غودو”
باراك قد يعود من جديد. وسيعلن، للمرة الألف، أن “اللحظة حاسمة” وأن “نافذة الفرصة تضيق” وأن “اللبنانيين مدعوون لاتخاذ قرار تاريخي”. وحينها، سنستمع إليه وسنصفق بشكلٍ باهتٍ، قبل العودة إلى بيوتنا… وستقفل الأبواب على واقع عبثيّ عصيّ على التغيير!
وسيعني ذلك أن لبنان أسير روتين مأساوي: روتين الانتظار والتجنب والتآكل بصمت. وبغضّ النظر عن “نواياه الحسنة” أو جهوده الإدارية، لن يتمكن باراك من تحقيق أي خرق طالما أن لبنان مقتنع بقدرته على النجاة من دون حسم أي قرار!.