شو… ما في غير “طنسة” بالجيش؟

كتب Marc Saikali لـ”Ici Beyrouth”:

“شو، ما في غير طنسة بالجيش؟”… في لبنان، حكاية متوارثة منذ غابر الزمان، تجرح في الصميم بقدر ما هي صادقة، عن شخصية “طنسة”… جندي “معتّر” يُرمى في الميدان، بمواجهة الدبابات، ثم المدفعيّات، ثم الطائرات. وحيد، من دون أي مساعدة… لا دعم، ولا غطاء، ولا سند بأي شكلٍ من الأشكال، حتّى يفيض به الكيل، وينتفض: “شو هالبلد؟ شو، ما في غير طنسة بالجيش؟”.

حكاية “طنسة” أبعد بكثير من نكتةٍ ساخرةٍ تبعث على الضحك… وأبعد بكثير من أقصوصةٍ استُلهم منها مثل لبناني. حكاية “طنسة” مرآة تنعكس فيها مأساتُنا، مع الأسف… ذلك أن “طنسة” ليس شخصيةً خياليةً من نسج الفكاهة الشعبية. “طنسة” هو كل جندي لبناني يعاني بصمت.

“طنسة” هو كلّ جندي نُطالبه بارتداء جميع القبعات، وبالوقوف على جميع الجبهات، وبالتوفّر في جميع الأوقات. هو كل جندي مُطالب بتحقيق المستحيل، وبمجابهة الإرهاب في المدن، والجبال، والتلال، وفي كل البقاع من دون استثناء. هو كل جندي مُطالب بالوقوف درعًا في قلب الفوضى، وشرطيًّا في الطرقات التي تعجّ بالفلتان، وصوتًا للعقل حين تخفت كلّ الضمائر.

وعلى سيرة “طنسة”، يتزامن الأول من آب مع عيد الجيش اللبناني. جيش فقير بالعتاد، ومُثقَل بالمهمات. جيش يُفرض عليه الحضور على الدوام… تُرفع له القبّعات حين ينجح، ونُحمّله وزر الفشل حين تفوقه المهام. جيش نُصفّق له حين يحفظ النظام، ويُطفئ النيران، ونرجوه التدخّل حين تغرق الشوارع بالرصاص والدماء، من دون أن نتوقّف لحظة عند تواضع موارده أمام تعقيد مطالبنا. جيش تكفي رواتبه بالكاد لقوت اليوم، ويعتاش من مساعداتٍ خارجيةٍ مُهدّدةٍ بالانقطاع في أيّ لحظة. ومع ذلك، لا يتذمّر، لا يتراجع، لا يُساوم، ويبقى واقفًا… ليس لأنّه جيش خارق، بل لأنّه لا يملك ترف الانهيار.

غدًا، ربّما يُطلَب من “طنسة” (وكم نأمل ذلك قبل فوات الأوان) نزع سلاح حزب الله… مُحاصرًا بين مطرقة القادة المتردّدين باتخاذ قرار، وسندان حربٍ أهليةٍ، وحده الجيش قادر على تفاديها، لا أولئك الذين قادوا البلاد إلى الجحيم بأمرٍ من طهران.

“طنسة” مدعوٌّ أيضًا لضبط حدودٍ جغرافيةٍ مشرذمة المعالم… حدود تُركت أقرب إلى مجرّد خطوط وهمية… مخترقة، مستباحة، ومُستَغَلّة… تحوّلت إلى طرق سريعة لكلّ أنواع التهريب. وليس مستبعدًا أن يطلب العالم، الذي سئم الشعارات الفارغة، والوعود المنسية، من “طنسة” الحلول محل قوات “اليونيفيل”، إذا ما قررت هذه الأخيرة الانسحاب، بعدما أنهكها النكران الجماعي والعجز والاعتداءات ومسائل التمويل.

“طنسة” هو ذاك العريف القادم من عكّار، المتمركز في عرسال تحت الثلج. هو المجنّد في الجنوب، الذي يجوب الطرقات بتلك “الملّالة” الشهيرة… ناقلة الجنود التي تصمد بالكاد أمام أبسط سلاح حديث. هو جندي بيروت، المدعوّ لتأمين الشوارع عند أول شرارة اضطراب. هو ذلك العسكري المنتشر في راشيا، في القاع، في رأس بعلبك، في الناقورة، في طرابلس، في جونية… هو ذلك الأب، والأخ، والابن، والزوج الذي لا يعرف إن كانت عائلته ستجد ما تسدّ به رمقها هذا المساء.

“طنسة” هو ذاك اللبناني الذي يُستغاث به حين ينهار كل شيء، ثم يُنسى بمجرّد أن تُرمَّم الصورة. هو الوحيد الذي لا يُسأل: “إلى أي حزبٍ تنتمي؟” لأنه لا ينتمي ببساطة إلّا… للبنان.

نعم، حكاية “طنسة” نكتة قاسية، لكنها تُعرّي الحقيقة وتُجرّدها: “أي بلد هو ذلك الذي لا يجد من يحميه سوى طنسة؟”

ولكن، ماذا لو كان “طنسة” فعلًا آخر الحرّاس على بوابة لبنان؟ ماذا لو لم يتبقَّ غيره أمام هذا الحصن؟
في جمهورية الخراب هذه… وحده الجيش يقف صامدًا على قدميه.
وهذه النعمة… فرصة لا تتكرّر! وعلى عكس الخفّة التي تُرمى بها عبارة “شو، ما في غير طنسة بالجيش؟”، كم نحن ممتنّون لأن الجيش وحده هو من تبقّى. نقولها بقلوبٍ متأملة: “ما في غير الجيش”… وألف الحمد لله!

في الأول من آب، كؤوسنا مرفوعة لـ”طنسة”، ولكلّ من يشبهه. “طنسة” ليس بطلًا من نسج الأساطير… إنه جنديّنا… جندي من لحم، ودم لبناني، وتعب، وشقاء من عمر البلاد. وكم هو متواضع “طنسة”… لا يُطالبنا بالإجلال، ولا يرجو إلّا ألّا نتركه وحيدًا!

في هذه المناسبة، كلّ لبناني مدعو لأن يكتب، ويصرخ عاليًا: “كلنا للوطن… كل الدعم للجيش اللبناني”… ليس بدافع الحنين، ولا بلمسة الفولكلور… بل كرامةً للبنان… لأن لبنان هو “طنسة”، وسقوط “طنسة” نقطة النهاية لكلّ لبنان.

إليك يا “طنسة”، أيها الجندي المجهول، والمنسي، والمُضحّى به: كل الاحترام… ألف شكر وتحية امتنان!.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع ذات صلة :

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us