لبنان.. الجمهورية المتداعية

كتب Charles Chartouni لـ”This Is Beirut”:
منذ ستينيات القرن الماضي وعلماء السياسة الأميركيون يبدون نظرة تشاؤمية إزاء الأزمات السياسية المتلاحقة التي ألمّت بلبنان منذ أواخر الخمسينيات. وفي هذا السياق، استخدمت ليلى ميو توصيف “الأمة غير المحتملة” (1963)، بينما لجأ مايكل هدسون إلى توصيف “الجمهورية الهشة” (1965). ودفع هذا الشعور العميق بعدم الاستقرار بالعديد من الباحثين لاستكشاف العوامل الأساسية وراء هشاشة وتمزّق الهوية الوطنية والاضطرابات المزمنة وأزمات الحوكمة.. مشهد لبناني مضطرب يُعزى للتداخل المعقّد بين الانقسامات الطائفية والصراعات الثقافية والتدخلات الخارجية والموروثات التاريخية العالقة.
واليوم في ظل العجز التام عن إعادة بناء مؤسسات الدولة المتهالكة، يعيش لبنان ما يمكن وصفه بـ”الدولة المستحيلة” (شارل شرتوني، 2025). فقد عمقت الاضطرابات الإقليمية المتواصلة وتداعياتها المتكررة على الداخل اللبناني حالة الشلل السياسي وفاقمت الاحتقان الأهلي. وهذا ما يضاعف الحاجة لحلول سياسية مبتكرة تعيد إنتاج الحد الأدنى من الاستقرار والتماسك الوطني. غير أن الانقسام السياسي، واستمرار الحروب الثقافية، وترسّخ نفوذ القوى الأوليغارشية والوصايات الخارجية المتعاقبة كلها تقوّض مفهوم الدولة نفسه، وتضع علامات استفهام حول احتمالات إعادة بنائها.
وفي الأصل، بعد 15 عامًا من الصراع المفتوح، لم تنتج الحرب الأهلية إلا حالة من الإنهاك الداخلي، دون أي مصالحة وطنية شاملة. كما مهّدت الطريق لسياسات الغلبة، في ظل انهيار التوافقات الوطنية، وصعود هيمنة سياسية شيعية وتنامي العدمية السياسية وتفكك النظام الإقليمي، وسط صراعات نفوذ إقليمية متنافسة. وبدلاً من تعبيد الطريق للمصالحة الوطنية والتكفير الأخلاقي وإرساء العدالة أو فتح مسارات حل النزاعات بالحوار، أطلقت العنان لسياسات القوة التدميرية وسيناريوهات “اللعبة الصفرية” والتصعيد والمواجهة المفتوحة.
كما خنقت هذه الديناميات أي فرصة للحوار البنّاء ورسّخت الانقسامات الطائفية والسياسية، وسط صراع مرير على النفوذ. ومع تنامي النهج الفئوي والانتقام السياسي والنهب الممنهج وسياسات الغطرسة الشيعية، تعرضت أسس النظام التوافقي والدستوري للتفكيك الكامل، وأُعيد تشكيل المشهد السياسي وفق قواعد الفوضى لا المؤسسات وتمزّق جوهر السياسة التوافقية والدستورية.
وهكذا، استحالت المؤسسات السياسية أدوات بيد تحالفات السلطة ورعاتها الإقليميين. فتبنّت البلاد نمط حكم يرتكز على توظيف السياسات الإسلامية وأذرعها المحلية. أما الانتفاضات الوطنية والمدنية (2005، 2019) ضد الهيمنة السورية والممارسات الأوليغارشية، فشكلت فواصل عابرة سرعان ما تعرضت للتهميش تحت وطأة الهيمنة الشيعية. ومع تصاعد فقدان الثقة وانكشاف هشاشة البنية السياسية، بات طريق المصالحة الوطنية محفوفًا بالتحديات، ويستدعي وساطات دبلوماسية فعّالة ومقاربات سياسية بديلة، والتزامًا صادقًا من جميع الأطراف المعنية.
المسرح السياسي اللبناني تحوّل إلى ساحة تنافس إقليمي مباشر، تقسم فيه الأدوار بين وكلاء محليين تابعين لقوى إقليمية كبرى. وعلى مدى العقود الثلاثة الماضية، تناوبت سوريا والسعودية وإيران على إدارة اللعبة السياسية في لبنان.. الأمر الذي شوّه الحياة العامة، وكرّس هشاشة السيادة الوطنية، وجعل البلاد عرضة للارتهان الخارجي وأضعف مناعتها وقدرتها على تطوير بيئة سياسية مستقلة. وعلى الرغم من كل ذلك، يبقى الدور السعودي أقل ضررًا مقارنة بتأثير السياسات السورية والإيرانية التخريبي. إلا أنّ تغيّر موازين القوى الإقليمية وتفكك البُنى المحلية التابعة لها أضعف هذه الهيمنات تدريجيًا.
ومع اتساع الفراغ السياسي، تصاعد نفوذ السياسات الشيعية المتشددة التي استفادت من الفوضى وغياب التوازن. ولم يقتصر ذلك على تقويض السيادة، بل انسحب ليهدد مقومات البقاء الوطني، وعطّل كل المحاولات المبذولة لإعادة بناء السلم الأهلي.
التدخلات المتناوبة من سوريا والسعودية وقطر وإيران خلقت، بالإضافة إلى ذلك، بيئة سياسية هشّة، قائمة على الفساد السياسي والمالي والانصياع لسياسات الافتراس والاستخدام التعسفي للسلطة، وتهميش أي التزام مؤسسي. وهكذا، تقهقرت هوية لبنان السياسية والوطنية أمام تغلغل الهيمنات والانقسامات المجتمعية وسياسات الحرب الأهلية والتطرّف الإسلامي بأذرعه المحلية والإقليمية.
أما السياسات الإيرانية التخريبية فأظهرت قدرة كبيرة على دمج العوامل الداخلية والخارجية لتحويل لبنان إلى منصة عمل ورافعة جيوسياسية فعالة على تقاطع هذين المستويين. هذا الإنجاز ليس غريبًا عن معايير المنطقة، لكن ما يميزه هو تحوّله إلى نموذج تشغيلي قابل للتكرار في أكثر من دولة في الشرق الأوسط.
لكن هجوم 7 أكتوبر 2023 وما تبعه من ردّ إسرائيلي عنيف، أفضى إلى نتائج عكسية، فدمرت المنصات العملياتية المتكاملة التي بنتها إيران، وفتح الباب على مصراعيه أمام نظام جيوسياسي جديد يعيد النظر في الخرائط السياسية الوطنية والإقليمية، ويستدعي مراجعة عميقة لتوازنات القوى في المنطقة.
وحالياً، تحاول إيران تجاوز مأزقها السياسي مع تراجع نفوذها. وتراهن على استمرار الفوضى والحروب الأهلية المؤسّسة والتطرّف الشيعي، كوسيلة وحيدة لتفادي الانهيار وخسارة وكلائها الإقليميين. وللمفارقة، لا يزال “حزب الله”، أداتها الأكثر فاعلية في تعطيل الاستقرار الإقليمي. وبعد ضرب الحزب وسلسلة حلفائه، تحاول إيران اليوم استثمار المؤسسات اللبنانية كوسيلة بديلة لاستعادة السيطرة على مسارَي السياسة والأمن.
وفي المحصلة، يفتح تهاون، بل وحتى تواطؤ السلطة التنفيذية الجديدة، الباب على مصراعيه أمام سيناريوهات الفوضى المؤسسية، ومخاطر الحروب الأهلية الداخلية والإقليمية، وتفكك الكيان اللبناني. ذلك أن استباحة المؤسسات وتعطيل آلياتها الداخلية والانقلاب على التوافقات الوطنية، يعيد لبنان إلى مربّع الصراع المفتوح وسياسات الهيمنة. وبغياب أي بوصلة أخلاقية أو توافق وطني، يجد لبنان نفسه من جديد بمواجهة تحديات جيوسياسية واستراتيجية كبرى تهدد مصيره وكيانه ككل!