معضلة الولايات المتحدة وفرصها في الشرق الأوسط

كتب David Hale لـ”This Is Beirut”:
بغضّ النظر عن تفسيرك للأحداث منذ تشرين الأول 2023، لا شك أنّ تحولًا جوهريًا طرأ على ميزان القوى في منطقة الشرق الأوسط.
المعضلة التي تواجه واشنطن وشركاءها الإقليميين تكمن اليوم في كيفيّة تحويل هذا التغيير إلى أمنٍ مستدامٍ لجميع أولئك الذين اضطرّوا للعيش في السابق تحت تهديدات وعنف إيران ووكلائها العرب. وقد تحمل المرحلة المقبلة درجةً أكبر من التعقيد.
وستتطلّب تلك المرحلة مقايضات دقيقة، وتحديدًا للأولويات، وحشدًا للرأي العام، وإقناعًا للحكومات وقواعدها الشعبية. كما سيتعيّن على صنّاع القرار الاستفادة من التجارب السابقة والاحتفاظ بالدروس والمبادرات التي أثبتت فعاليتها، والتخلّي عن الفرضيّات التقليدية التي لم تُثمر يومًا عن نتائج ملموسة.
كما لا ينبغي لواشنطن إغفال نقطة مهمة: على الرَّغم من كلّ الضربات القاسية التي استهدفت البرنامج النووي الإيراني وتفكيك تحالفات طهران الإقليمية، تبقى إيران التهديد الأكبر للأمن القومي والمصالح الأميركية ومصالح حلفائنا في المنطقة. وإنْ كانت الولايات المتحدة جادّةً فعلًا في مسعاها لتحويل تركيزها الأمني من الشرق الأوسط إلى شرق آسيا، فعليها المبادرة إلى وضع استراتيجية تضمن انقلاب موازين القوى بشكلٍ دائمٍ ضدّ إيران. وقد تصرفت إدارة ترامب على ما يبدو بحكمة حين تفادت التسرّع في التوصّل لاتفاق نووي جديد؛ ذلك أن إيران، وليس الغرب، هي الطرف الذي يحتاج لاتفاق يمنح بعض الوقت وبعض الأوكسجين.
وعلى الرّغم من أن الأوروبيين يسعون لاستئناف المفاوضات النووية مع إيران، فهم يقومون بذلك من دون امتلاك أدوات ضغط حقيقية. وبغضّ النظر عن دوافعهم النبيلة والمسؤولة، يفتقرون لأدوات الضغط الحقيقية، وذلك هو تاريخيًا قدر من يحمل الدور من دون النفوذ. وفي المقابل، تمتلك واشنطن ما يكفي من القوة ورئيسًا مستعدًا لاستخدامها، لكنّها تعاني من عقلية وطنية متردّدة في تحمّل عبء المسؤولية مجدّدًا. وهذا موقف مفهوم بعد عقود من الالتزامات المتزايدة باستمرار، من دون أي ترتيب فعلي للأولويات، دفعت الولايات المتحدة في الكثير من الأحيان إلى مآزق سياسية وعسكرية وأفقدتها ثقة شعبها، من دون تحقيق أهداف واقعية.
ومع ذلك، على الولايات المتحدة عدم “المبالغة” في استخلاص الدروس من العراق وأفغانستان وليبيا. فالانتشار العسكري الضخم وبناء الدول وأجندات الحرية وإسقاط الطغاة من دون خطط واقعية لليوم التالي، كلّها أخطاء لا بدّ من تجاوزها. وفي المقابل أيضًا، يبقى الرّكون للتقاعس، خيارًا مُعيبًا بالقدر نفسه. كما لن يؤدي الاكتفاء بعقد اتفاقات هدنة قصيرة الأمد، بمعزل عن رؤية إقليمية شاملة وخطة طويلة المدى، إلّا إلى تمكين إيران من العودة إلى الواجهة. ينبغي على القوة العظمى، حين تُقاد من رجال دولة حقيقيين، النظر إلى الأفق وما بعده، لا أن تحبس رؤيتها في حدود هدنةٍ لستين يومًا.
ماذا يعني ذلك عمليًا؟ فيما يخص إيران، الأمر يتطلب ممارسة جميع أشكال الضغط الممكنة: العقوبات والعزلة الدبلوماسية وصولًا إلى التلويح الجدّي باستخدام القوة. وينبغي المواظبة على هذه الضغوط ما دامت طهران تصرّ على تطوير برنامج نووي وبناء شبكة نفوذ إقليمية تخريبية. وعندما تدرك القيادة الإيرانية أنّ خلاصها رهن حصرًا بتغيير مسارها، ستأتي إلى طاولة المفاوضات. لكنّ هذا النّهج الحازم يتطلب صبرًا لا تمتلكه الديمقراطيات الغربيّة على الدوام. وعلى بعد أكثر من ثلاث سنوات على الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، هناك فرصة حقيقية للمثابرة والثبات.
أمّا سوريا، فتبرز اليوم بوصفها حجر الزاوية الذي قد يحدّد مسار المنطقة في المستقبل. التعاون مع أحمد الشرع يحمل بعض المخاطر؛ فهل سيتخلّى فعلًا عن ممارساته السابقة وعن قاعدته التكفيرية، ويُطمئن مخاوف الأقليات السورية؟ الحكم لا يزال غير محسوم، والمؤشرات الأولى، على غرار أسلوبه في التعامل مع “المشكلة الدرزية”، لا تبعث على التفاؤل. ومع ذلك، لا تملك الدول التي تسعى فعليًّا لإنهاء النفوذ الإيراني في الشرق خيارًا سوى دعم فرص الشرع، ولو جزئيًا من خلال مطالبته بإثبات كفاءته كحاكم متوازن وكفء لسوريا. وينبغي صياغة سياسات الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية بما يتواءم مع هذا الهدف.
أمّا في غزّة، تتبلور قناعة بأنّ التعويل على حماس رهان خاسر. وينطبق الأمر ذاته على الرئيس عباس؛ إذ تشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى أن 81% من الفلسطينيين يريدون استقالته. فلا هو ولا محيطه السياسي القديم يمثلان مستقبلًا واقعيًا للحياة في غزّة.
لا مفرّ من سلوك طريق شاق وطويل نحو بناء دولة فلسطينية من القاعدة إلى القمّة، وليس العكس. وهذا ما سيتطلّب تنفيذ خطة جدّية وتدريجية تُعنى بالأمن والإدارة وإعادة الإعمار، بشكلٍ متسلسلٍ وعلى مستوى الأحياء، من خلال التعاون مع فلسطينيين حريصين على إعادة بناء مجتمعهم بدلًا من التفاخر بمقعدٍ في الأمم المتحدة بين بالاو وبنما. وقد تُفضي هذه العملية إلى بروز قيادات جديدة ومسؤولة.
أمّا في لبنان، فتمتلك القيادة الجديدة، بدعم أميركي، فرصة تاريخية لاستعادة سيادة الدولة. ولا يمكن التراجع عن المهمة الصعبة والضرورية المتمثّلة في نزع سلاح حزب الله، وترك هذا الأخير يتحيّن الفرص لإعادة التفاوض على اتفاق التهدئة.
المعضلات كثيرة في المحصلة… ولكن كذلك هي الفرص.
مواضيع ذات صلة :
![]() “طيران الشرق الأوسط”: تعديلات على هذه الرحلات | ![]() الشرق الأوسط: تعديل جدول مواعيد بعض الرحلات! | ![]() بري لـ”الشرق الأوسط”: نسعى لموقف موحد بين الرؤساء… وسنأخذ موقف “حزب الله” في الاعتبار |