الدولة الفلسطينية والأسئلة المعلّقة

كتب Charles Chartouni لـThis Is Beirut:
ماذا عن الدولة الفلسطينية والأسئلة المعلقة؟ المراقبون السياسيون يتساءلون عن توقيت تلك الخطوة السياسية في ظل المعطيات الراهنة، وجدواها في تحسين مسار الصراع. فالمواقف السياسية المعلنة، مهما بدت قوية، تفتقر لأي قيمة إن لم تتأكد فرص نجاحها.. وقد تفاقم المشكلة أحياناً عوضاً عن حلها. ويصبح هذا التساؤل أكثر إلحاحاً في ظل فشل الأطراف المعنية خلال العامين المنصرمين، في إيجاد وساطات فعّالة أو فتح قنوات حوار بديلة لإنهاء النزاع.
وشكلت الاستراتيجية المعلنة لحركة حماس منذ البداية عائقًا رئيسياً أمام أي مسار تفاوضي أو تسوية سياسية، حيث قامت على تعهد صريح بالقضاء على دولة إسرائيل بأي ثمن. ومع الهجوم الدموي الذي فجّر دوامة عنف مفتوحة، انكشفت التحديات المركبة التي تحيط بالنزاع في أبعاده الاستراتيجية والسياسية والإنسانية. فالوحشية اللامحدودة ودراما الرهائن واستغلال المدنيين كدروع بشرية، وتلاشي الخط الفاصل بين ميادين القتال والتجمعات السكانية.. كلها ملامح متشابكة تعكس حقيقة واحدة: ترسيخ حلقة عنف متجددة يصعب كسرها أو احتواؤها.
أما الوساطات العربية والغربية المعلنة، فبدت عاجزة منذ البداية لأنها تغاضت عن الطبيعة المتشابكة للحروب في المنطقة، واكتفت بتكرار الخطاب التقليدي حول حل الدولتين. هذا في وقتٍ أمعنت فيه حركة حماس نفسها بنسف أساس أي مسار تفاوضي معلن، وبإعلان الحرب ضد مبدأ التعايش وفكرة وجود دولتين. وفي هذا السياق، لا يمكن إعفاء الوسطاء العرب الذين يموّلون حماس وهم على دراية تامة بأهدافها الاستراتيجية، ولا الأوروبيين الذين اكتفوا ببيانات دبلوماسية دون أي تأثير فعلي على موازين القوى السياسية أو العسكرية.
لقد برز الخلل في المصداقية منذ اللحظة الأولى للتصعيد، ما يثير تساؤلات جدّية حول نوايا هؤلاء الوسطاء ومدى قدرتهم على إدراك أبعاد الأزمة وتبعاتها. فكيف يمكن التعامل مع نزاع بهذا الحجم الكارثي دون انخراط استباقي أو مقاربة واقعية لتفادي نتائجه السياسية والإنسانية؟ لا يخفى على المتابع أنّ هذا الصراع ليس معزولًا، بل هو جزء من هندسة جيوسياسية أوسع ترسمها السياسة التوسعية الإيرانية. وبالتالي، يفاقم تجاهل الوسطاء لهذه الحقائق من حدة المعضلة. ذلك أنّ الحروب المتعاقبة لم تأت كردود فعل عسكرية فحسب، بل تموضعت ضمن استراتيجية “المنصات العملياتية المتكاملة” التي بلورها النظام الإيراني لتعزيز نفوذه عبر ساحات متعددة. أما التعامل مع هذه المعطيات على أنها مجرد نزاع جغرافي محدود، من دون الاعتراف بامتداداته الإقليمية، فلا يكشف عن قصور سياسي فحسب، بل يطرح معضلة أخلاقية كبرى حول طبيعة الدور الذي يلعبه الوسطاء.
أضف إلى ذلك أنه لا يمكن ارتجال الأدوار السياسية الكبرى وتوقع الترحيب بها، خصوصًا حين تنطلق هذه الأدوار من دوافع منحازة جوهريًا وتتعامل مع إسرائيل باعتبارها المسؤول الأوحد عن المأزق. فدينامية الصراع صُمّمت لتعيد إنتاج ذاتها، عند تقاطع صراعات القوة مع مشاريع “تسييس الضحية” التي تتبناها قيادة حماس، مدعومةً بشبكاتها الإقليمية والدولية، الممتدة من الإسلاميين إلى اليسار الراديكالي، مرورًا بالأنظمة الاستبدادية العربية والإسلامية. ويبقى السؤال الجوهري هنا: كيف يمكن تفكيك هذه الحبكة السياسية المعقدة إذا كان الوسطاء المفترضون عاجزين عن ربط عناصرها وفهم تشابكاتها؟
هذه الصراعات ليست مجرد أحداث طارئة، بل نزاعات مُصمّمة بعناية، ولن تُحلّ إذا استمرت الانحيازات الإيديولوجية ومعاداة السامية الفجّة والتحزّبات الضيقة في التحكم بمسار الدبلوماسية. والمطلوب اليوم: كسر مسار التصادم الحتمي الذي تُغذّيه العقائدية المتشددة والانفرادية وسياسات القوة المفرطة. وبالتالي، لا يمكن فهم الموقف السياسي للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلا في ضوء تعقيدات الساحة الداخلية الفرنسية، وما أفرزته من ارتباكات ناجمة عن إخفاقاته في إدارة الشأن المحلي. فتصعيده العدائي ضد إسرائيل ليس سوى محاولة للهروب إلى الأمام. ومع ذلك، يفتح الباب أمام مناخ شبيه بأجواء الحرب الباردة حيث تتفاقم الانقسامات ويتهدد السلم الأهلي الفرنسي والأوروبي على السواء مع تصاعد موجات التطرف من مختلف الأطراف.
ويدرك ماكرون تمام الإدراك أنّ شرعيته الداخلية باتت على المحك، وأنّ الوفاق المدني في فرنسا مهدد بالانهيار عند أي حركة غير محسوبة. ويثير سلوكه السياسي الشكوك حول قدرته على الحكم وصدقيته الأخلاقية، بينما تغرق فرنسا في حالة من الارتباك والفوضى. وإذا أخفق في استيعاب أبعاد الديناميات المتسارعة المحيطة بالصراع، ستجد فرنسا وأوروبا نفسها أمام عواقب وخيمة تستدعي مراجعة واقعية عاجلة قبل انزلاق الأمور وإفلاتها خارج السيطرة.
وفي المقابل، القادة العرب والمسلمون مطالبون بتحمّل مسؤولياتهم التاريخية ولو لمرة: الوضع الحالي لا يتطلب بيانات إنشائية، بل خطوات جريئة تفرض مسارًا سياسيًا على حركة حماس التي تحوّل خطابها الأيديولوجي إلى مشروع تدميري كارثي. وهذا المسار يبدأ بتحرير الرهائن الإسرائيليين وضمان انسحاب حماس من غزة وفتح الطريق أمام قيام سلطة انتقالية تحظى بدعم الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية على حد سواء. وكل ذلك منوط بالتفكيك الممنهج لبنية الصراع، وإلا سيبقى النزاع مفتوحًا على احتمالات التصعيد، فيما يواصل التطرف تمدده حتى يبلغ لحظة الانفجار الكبير.
كما لا يمكن رهن قضية الدولة الفلسطينية بتهور حماس ورعاتها الإسلاميين (إيران وقطر وتركيا) ولا بوكلائهم الذين يوظفون الصراع لأجندات ضيقة. فالاستراتيجية الإسرائيلية التي أسفرت عن تدمير المنصات العملياتية الإيرانية نهائية وغير قابلة للتراجع، وإسرائيل والولايات المتحدة لن تسمحا بإعادة تأهيل هذه البنى تحت أي مسمى أو ذريعة. وفي هذا السياق، شدّد بيني غانتس، في مقاله الذي نشر مؤخراً (24 سبتمبر)، في صحيفة “نيويورك تايمز”، على ضرورة تجاوز الفاعلين السياسيين لتحيزاتهم الإيديولوجية (التي تحصر أسباب استمرار الصراع بالحسابات الشخصية لرئيس الوزراء نتنياهو)، وإعادة قراءة المشهد بواقعية انطلاقًا من القضايا الأمنية والاستراتيجية الجوهرية.
أما الخطوات العقابية التي تلوّح بها بعض الحكومات الأوروبية ذات التوجه اليساري، فلا تزيد المشهد إلا قتامة وتعقيدًا. فهذه القوى التي ترفع شعارات الفضيلة لم تُبدِ أي التزام جاد بمسار دبلوماسي يهدف لإنهاء الصراع العبثي وإرساء حل تفاوضي يعالج جذور النزاع التاريخي. لكن الحقائق الاستراتيجية تبدلت، وما عادت سياسات الابتزاز والمساومة قادرة على فرض وقائع جديدة. ومن هنا، تقع المسؤولية الكبرى على عاتق الديمقراطيات الغربية، التي بات لزامًا عليها التخلي عن رهاناتها الشعبوية وانقساماتها المؤقتة، واستعادة موقعها كوسيط محايد قادر على تحويل صخب النزاعات إلى حوار فعّال.. وتمهيد الطريق أمام تسوية سياسية تفاوضية تضع حداً لدوامة الحروب التي لا تنتهي.
مواضيع ذات صلة :
![]() زلزال يضرب تركيا | ![]() البابا سيزور لبنان وتركيا في أواخر تشرين الثاني | ![]() من تركيا إلى لبنان… أدوية مزوّرة ومستحضرات تجميل فاسدة |