ترامب في شرم الشيخ: صانع الصفقات.. ملك الرؤساء

ترجمة هنا لبنان 17 تشرين الأول, 2025

كتب سلام الزعتري لـ”This Is Beirut”:

حطت طائرة الرئاسة الأميركية في 13 تشرين الأول 2025، في شرم الشيخ الشهيرة كمنتجع للسياحة وكوجهة للهدوء على ضفاف البحر الأحمر، فإذا بها تستحيل عاصمة للسياسة العالمية. الكاميرات التقطت من كل زواياها، الصورة التي اجتاحت عناوين الصحف: الرئيس الأميركي دونالد ترامب متموضعاً بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وعلى وجهه ابتسامة ثقة.. كرجل متيقن من كتابته التاريخ بيديه.
وفي خلفية الصورة، مشهد استعراضي مهيب، حيث وقف أكثر من عشرين زعيمًا عالميًا، بينهم ماكرون وأردوغان وتميم بن حمد وجورجيا ميلوني وشهباز شريف، كما في موكب ملكيّ لرئيس بات فجأة محور العالم. وهكذا تحولت قمة شرم الشيخ للسلام، التي أطلق عليها البعض اسم “قمة ترامب”، من مجرد اجتماع دبلوماسي إلى تتويج سياسي عالمي. ونجح ترامب أخيراً بتحقيق المستحيل تقريباً: جمع الخصوم على طاولة واحدة، وتهدئة حربٍ إقليميةٍ مستعرة منذ عامين، وترسيخ صورته كـ”صانع للصفقات الكبرى” وكـ”ملك الرؤساء”.
طريق ترامب إلى القمة بدأ بما أسماه هو نفسه “أصعب صفقة في حياتي”. فبعد عامين من الدم والدمار في غزة، وأكثر من 40 ألف قتيل فلسطيني، استطاع ترامب انتزاع وقف إطلاق نار بين إسرائيل وحماس، بعد أن بدا ذلك مستحيلاً في الأسابيع الماضية.
بيد أنّ هذه الصفقة لم تأتِ وليدة صدفة، بل نتاج أسابيع من المناورات الدبلوماسية في الكواليس. ولم يوفر ترامب أيًّا من أوراق القوة الأميركية: المساعدات العسكرية لإسرائيل كورقة ضغط، التهديد بالعقوبات الاقتصادية على داعمي حماس في قطر وتركيا، ولغة التهديد الدبلوماسي التي لا يجيدها أحد سواه.. مبتسمًا بثقة تجمع بين الغرور والدهاء السياسي. في لحظة أشبه بمقطع مقتضب من رواية سياسية، أعاد ترامب خلط أوراق الشرق الأوسط، وأكد على دوره كصانع الصفقات الذي يتقن اللعب على حافة الفوضى.
ثم دقت اللحظة العاطفية الحاسمة: حماس أفرجت عن آخر 20 رهينة إسرائيلية، وردّت إسرائيل بخطوة رمزية كبيرة، فأطلقت سراح نحو ألفي أسير فلسطيني. العالم حبس أنفاسه بعد عامين من الدم والدموع، وكأنه يبحث عن بصيص أمل وسط الخراب.
استثمر ترامب هذا الجهد الجماعي بذكاء فريد، وحوّله إلى زخم سياسي، ثم إلى قمة سلام عالمية. وكعادته، نمق كلمته الافتتاحية باللعب بالشعارات، قائلا إنّ “السلام لا يأتي لمن ينتظر… بل لمن يبرم الصفقات”.
أما اختيار مصر فليس من قبيل الصدفة، فترامب احتاج منصة عربية شرعية وآمنة دوليًا، حيث تتلاقى الكاميرات والزعماء بلا خوف أو حرج، وقدّم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي هذه المنصة على طبق من ذهب، ليصبح المسرح جاهزًا لإعادة رسم خريطة الدبلوماسية في الشرق الأوسط.
ومن خلال مشاركة مصر في استضافة القمة، حصد ترامب رصيدًا عربيًا كبيرًا دون التنازل عن قيادته المطلقة للمشهد. وذلك خصوصاً أنّ مصر لطالما لعبت دور الوسيط التاريخي في نزاعات المنطقة.. من كامب ديفيد في السبعينيات إلى قمة شرم الشيخ عام 2005 التي أنهت الانتفاضة الثانية.
لكن ترامب قلب هذه المرة، المعادلة رأسًا على عقب: لم يعد مجرد حكم بين الإسرائيليين والفلسطينيين، بل قدّم نفسه بصفته الأب الروحي للعالم، يوزع المهام والأموال والابتسامات أمام عدسات الكاميرات.
وفي شوارع شرم الشيخ، تحوّل المشهد إلى عرض مسرحي هائل: لافتات عملاقة ترحب فيها “مدينة السلام بالعالم”، مقاتلات F-16 مصرية ترافق الطائرة الرئاسية، والسجاد الأحمر الذي يغطي الطرق المؤدية إلى المنتجع، تتخلله صور عملاقة لترامب وهو يصافح السيسي، بابتسامة المنتصر المدرك أنه محور كل الأنظار.
هي الدبلوماسية الهوليوودية بامتياز.. وترامب لم يكن فيها مجرد ممثل في مشهد، بل هو المخرج والبطل في آنٍ واحد.
كما أنّ سر نجاحه لم يكمن في الخطابات أو الاتفاقات وحدها، بل في مزيج ساحر من الكاريزما والتهديد. فهو الذي اتصل بالزعماء شخصيًا، ووعدهم بالمليارات لإعادة الإعمار، ملوّحًا بالتوازي بالعقوبات لكل من يجرؤ على التردد.
دعا أردوغان إلى “أجمل الموائد”، وأغرى أمير قطر بالمجد الدبلوماسي مقابل تعهد بخمسة مليارات دولار لإعمار غزة، وأقنع رئيس وزراء باكستان وقائد جيشه بالانضمام إلى اللعبة من خلال عرض مغرٍ: دور محوري في مراقبة جهود مكافحة الإرهاب.

خلال القمّة، استحال المشهد مثل “السيرك الدبلوماسي” على حد وصف بعض الصحافيين: الزعماء يصطفّون أكثر من ساعة كاملة بانتظار مصافحة ترامب، بينما ماكرون يعلق مازحًا: “لم أرَ طابورًا مماثلاً إلّا في “ديزني لاند”!” أما رئيس وزراء باكستان شهباز شريف فذهب أبعد من ذلك، ليعلن مباشرة من على المنصة ترشيح ترامب لجائزة نوبل للسلام، واصفًا إياه بأنه: “الرجل الذي أوقف سبع حروب!”
لكن بالنسبة لترامب، لم تكن تلك مجرد مفاوضات، بل فنّ أداء سياسي. كل مصافحة مرادف لـ”مانشيت” وكل ضحكة خطة محسوبة، وكل صورة.. سلاح ناعم في معركة النفوذ. أمام الكاميرات، استخدم ترامب أسلوبه الاستعراضي المألوف: يوزّع الألقاب والنكات وكأنه في عرض تلفزيوني مباشر. أشار إلى الشيخ منصور من الإمارات مبتسمًا: “رجل رائع، كثير المال، ثروة هائلة!” ثم ربّت على كتف رئيس وزراء العراق قائلاً: “كثير من النفط… النفط الجيد!” حتى ماكرون لم يسلم من الدعابة، حين خاطبه ترامب بنبرة ساخرة: “الإمبراطور الصغير لباريس!”
ووراء كل تلك الابتسامات، سطعت قوة الولايات المتحدة: ترامب يدرك أن كل زعيم في القاعة يملك ما يخسره أو يربحه تبعًا لمزاج واشنطن.
وهكذا، عرض على الدول الأوروبية المشاركة في ما سماه “مجلس السلام في غزة”، وهو هيئة إشرافية يتشارك رئاستها مع رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير. كما وعد دول الخليج بـ”نفوذ استثماري” و”هيبة سياسية” في مرحلة إعادة إعمار ما بعد الحرب.
بالنسبة للعالم العربي، لوّح ترامب بوعود مغرية: نسخة جديدة من اتفاقات أبراهام، ولكن غزة في قلبها هذه المرة لا على هامشها. أما لإسرائيل، فقد قدّم ضمانات أمنية مطلقة، مقابل قبولها بانسحاب جزئي من بعض المناطق.
ورغم أن بنيامين نتنياهو قاطع القمّة (بعد تهديد رجب طيب أردوغان بمقاطعتها إن حضر) استطاع ترامب قلب الغياب إلى انتصار إعلامي. قال بابتسامة واثقة أمام الصحافيين:
“لسنا بحاجة إلى وجود الجميع في القاعة… أحيانًا يبدأ السلام حين يخفت الضجيج.”
كانت اللحظة الزمنية نفسها سلاح ترامب الخفي..وكأن الكواكب اصطفت لتسعفه: العالم أنهكه التعب.. من الحروب إلى اللاجئين إلى صور الدمار اليومية. وبحلول أكتوبر 2025، كان الإسرائيليون والفلسطينيون يبحثون عن نهاية بأي ثمن، فيما قادة العالم يتوقون لانتصار سياسي يمكن تقديمه لجماهيرهم واستثماره في الداخل.
استشعر ترامب إرهاق العالم واستغلّه بذكاء، محوِّلًا الإنهاك الجماعي إلى فرصة ذهبية. فقد أعاد إحياء شعاره القديم: “السلام من خلال القوة”، مانحًا هذا الشعار معنى جديدًا في منطقة أنهكتها الحروب. وقد أعترف أشدّ منتقديه حتى، على مضض، بأن غموضه وتقلبه منحاه نفوذًا لم يبلغه أي رئيس أميركي قبله.
وفي فوضى العالم الحديث، كان ترامب يدرك أنه العنوان الثابت الوحيد وسط العواصف.
لكنّ الإعجاب لم يكن شاملًا. فبعض المحللين وصفوا القمّة بـ”العرض الاستعراضي” الفارغ من المضمون، والمبني على وعود بلا التزامات حقيقية. فالوثيقة التي سمّاها ترامب “إعلان السلام” لا تعدو كونها أكثر من بيان رمزي، غير ملزم قانونيًا، وغامض حيال القضايا الجوهرية مثل نزع سلاح حماس ومستقبل حكم غزة وحل الدولتين.
ومع ذلك، لرمزية المشهد وزنها. فللمرة الأولى منذ سنوات، شهد الشرق الأوسط على الرؤساء وهم يتصافحون بدل من تبادل الاتهامات، وشهدت غزة هدوءًا مؤقتًا بعد سيل من الغارات. أما ترامب، فقد رأى نفسه، من جديد، في قلب التاريخ، لا على هامشه.
حتى خصوم ترامب اعترفوا، وإن على مضض، جسد “ترامب في أنقى صوره”: فوضويّ وأنانيّ ولكنه فعّال على نحوٍ غريب.
في مصر، وصفه بعض المعلقين ما حصل بـ “كامب ديفيد جديد”، بينما رآه المراقبون الأميركيون “أضخم إعلان انتخابي في التاريخ”.
وعلى المنصة، قال ترامب بلهجته الواثقة أمام حشد من الرؤساء والملوك:
“كانوا يقولون إنني أُشعل الحروب… الآن يقولون إنني أوقفها. ربما لأنني ببساطة أعرف كيف أُبرم صفقات مستدامة”.
وسواء استمر هذا السلام أم لا، فقد رسّخ مشهد شرم الشيخ حقيقة لا لبس فيها: ترامب جعل العالم يدور من جديد حوله.
لم يكتفِ باستضافة قمّة، بل أعاد تعريف الدبلوماسية العالمية على طريقته، وحوّلها إلى مسرحٍ هو بطله الأوحد.
وفي تلك اللحظة بالذات، تحت شمس البحر الأحمر الحارقة، بدا وكأن دونالد ترامب، المحاط بالرؤساء والملوك، قد حقق أعظم أمانيه: لقد أصبح ملك الرؤساء!

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع ذات صلة :

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us