“الحزب” و”مبدأ الواقع”: انتهى زمن الإنكار!

ترجمة هنا لبنان 20 تشرين الأول, 2025

ترجمة “هنا لبنان

كتب Michel Touma لـIci Beyrouth“:

في المشرق العربي، ما عاد هناك من متّسع كبير للأوهام وللشعارات الفارغة. فالعواصف التي تضرب المنطقة اليوم تجبر كل الفاعلين على مراجعة الذات وإعادة النظر في تموضعهم ورهاناتهم. وفي قلب هذا المخاض، يقف حزب الله ومعه إيران أمام اختبار وجودي لما يعرف بـ “مبدأ الواقع”؛ أي القدرة على النظر إلى العالم كما هو في حقيقته، وفقاً لعلم النفس، لا كما يتماشى مع رغباتنا. وينهل هذا الواقع من الإدراك والوعي الذي يفرض على الإنسان، فردًا كان أو جماعة، التحرّك بعقلانية وتكييف سلوكه مع المعطيات الفعلية مهما كانت قاسية أو مناقضة للأوهام العقائدية التي لطالما تغذّى عليها.

وفي السياق اللبناني بالتحديد، يبدو أنّ الحزب يواجه تحوّلًا داخليًا غير معلن وتبدّلاً في طبيعته وهويّته السياسية. وفي مراجعة قاسية يفرضها الواقع دون إفساح المجال لأي خيار، يجد نفسه اليوم مأزوماً، أمام مرحلة جديدة من الانكفاء والتناقض..

فالحزب الشيعي، الذي تباهى لسنواتٍ بلقب “المقاومة”، انتقل من مرحلة الشعارات الكبرى إلى مرحلة الإنكار الممنهج أمام الغارات الإسرائيلية اليومية التي تتسع رقعتها وتزداد حدّتها. أما صورة “المجاهد على طريق القدس”، فقد تلاشت لتحلّ مكانها صورة التنظيم المنغلق على تفاصيل داخلية تافهة: من عروضٍ ضوئية على صخرة الروشة إلى الدفاع عن جمعيات حزبية هامشية أو مهرجانات شبابية جوفاء. كأنّ مشروع “المقاومة” انكمش إلى مسرحٍ رمزيٍّ ضيّق، لا يتّسع سوى لمظاهر استعراضية ولكشافة ترفع تحية النازية على مدرجات ملعب كرة قدم…

الحزب بات اليوم أسير أيديولوجيته المتحجرة، يرزح تحت ولائه المطلق للمرشد الأعلى في طهران، دون أن يجرؤ على الاعتراف بعزلته المتفاقمة داخل المشهد اللبناني، ولا بتناقضاته البنيوية التي تفضح ضياع بوصلته السياسية. وبعد أن كان ذراعًا ضاربة للحرس الثوري الإيراني، يصدّر مقاتليه وخبراءه إلى ساحاتٍ إقليمية متعدّدة، انكمش دوره ليقتصر على الداخل اللبناني حيث يوجه سهامه ضد مؤسسات الدولة وخصومه المحليين.

والأسوأ من ذلك بعد، أنّ العالم من حول الحزب يتبدّل جذريًا، فيما هو يراوح مكانه في خطابٍ جامدٍ من تسعينيات القرن الماضي. وبينما تعصف بالمنطقة تحوّلات عميقة تُعيد رسم ملامح الشرق الأوسط، يبقى حزب الله أسير لغته الخشبية وشعاراته الثورية البالية.. وكمن أُصيب بالعمى الأيديولوجي، يرفض لا بل يعصى عليه، النظر إلى الخريطة الجديدة التي تتشكّل أمامه.

مع ذلك، يعج التاريخ القريب بأمثلة على من اختاروا الركون إلى “مبدأ الواقع” بدل الوهم. ففي العام 1982، حين حوصرت منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، لم تُكابر ولم تتعلّق بشعارات البطولة حتى الفناء، بل اختارت الانسحاب، واضعةً حدًّا لهيمنتها على لبنان التي بدأت منذ أواخر الستينيات. وكذلك فعل الرئيس المصري أنور السادات بعد حرب أكتوبر 1973، حين أدرك أنّ المعركة لم تكن مع إسرائيل وحدها، بل مع ميزان قوى عالمي تمثّله الولايات المتحدة. فوجد في السلام خيارًا استراتيجيًا نابعًا من وعي واقعي لا من ضعفٍ أو تنازل.
لعل البلاء الأكبر الذي ابتُليت به شعوب المشرق منذ اندلاع الصراع العربي–الإسرائيلي في أواخر الأربعينيات، هو تلك النزعة المزمنة لدى قادتها لتغليب اللامنطق على الحكمة والعاطفة على البصيرة والشعار على المصلحة. سبعة عقود ونصف من المغامرات العسكرية العبثية، ومن الشعارات التي تستهلك الواقع بدل أن تغيّره.. كافية لتؤكد أنّ غياب البراغماتية هو الوجه الآخر للهزيمة الدائمة.

أما اليوم.. دقت ساعة المراجعة! لقد آن الأوان لوضع حد للعمى وللقوالب الأيديولوجية الجامدة وللإرهاب الفكري الذي يصادر العقول ويُقيد الحرية ويحول دون بلوغ الرفاه الاجتماعي والتقدّم، والانفتاح على الآخر والسلام الدائم الذي طال انتظاره. لقد آن الأوان لفتح الطريق أمام شرقٍ جديدٍ متصالحٍ مع ذاته ومؤمن بأنّ القوة الحقيقية تنبع من الوعي، لا من التعنت والإنكار!

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us