عن الإرهاب الفكري واستدامته…

كتب Michel Touma لـ“Ici Beyrouth”:
لا يدرك معظم اللبنانيين أنهم واقعون، منذ أكثر من خمسين عامًا، تحت تأثير ضغط فكري منظّم يشبه الإرهاب الفكري. هذا التأثير بدأ في أوائل سبعينيات القرن الماضي مع دخول التنظيمات الفلسطينية المسلحة إلى لبنان، حيث فُرضت أفكار وشعارات تخفي في الكثير من الأحيان أهدافًا غير معلنة ولا تخدم مصلحة البلاد. وعلى الرغم من التحولات الكبيرة التي شهدها الشرق الأوسط، ما زال هذا النهج الفكري قائمًا حتى اليوم، والخطاب نفسه يتكرر وكأن الظروف لم تتغير.
هذا التلاعب الخطير، التي تعاقب عليه القائمون عبر العقود، أفرز ذهنيةً سياسيةً مغلقةً لدى شرائح واسعة… ذهنية تقوم إمّا على الإنكار الكامل للواقع بشكل يدمر القدرة على التحليل والفهم، وإمّا على الجهل التام بالتاريخ وبالحقائق الأساسية. أمّا السلوكيات الناتجة عن ذلك والمضخّمة إعلاميًا، فهي سلوكيات مؤذية وخطيرة على كل المستويات، وهذا ما تثبته الوقائع.
ولعلّ أحد أبرز الأمثلة على ذلك برز مؤخرًا مع ردود الفعل العنيفة على مقابلة إعلامية أجراها سفير إسرائيلي مع وسيلة محلية وجّه من خلالها رسالة سلام إلى اللبنانيين. وبالكاد نشرت المقابلة حتى قوبلت بهجوم شرس من جهات ترفع شعار رفض أي تواصل مطلق، متناسيةً أو متجاهلةً أن حلفاءها الإقليميين خاضوا في مراحل مختلفة، مفاوضات مباشرة وغير مباشرة مع إسرائيل عندما اقتضت مصالحهم ذلك، وأن الحليف الأساسي لحزب الله أجرى، لعدة أشهر، مفاوضات باسم الحزب مع ضابط إسرائيلي رفيع سابق، انتهت حتى بعلاقة ودّية بين الطرفين. هؤلاء الناشطون المتحمسون على مواقع التواصل، المحسوبون على حزب الله، يرفضون الاعتراف بأنّ قيادة حزب الله نفسها ترغب على الأرجح بالاحتفاظ بالحقّ الحصري لأي تواصل مع العدو.
لكن الأمر أكثر تعقيدًا بكثير… ومن باب الأمانة الفكرية، ينبغي بمنتقدي مقابلة السفير الإسرائيلي بشكل حاد (من منطلق الحماسة أو الغضب)، الاطلاع على خلفيات فضيحة “إيران غيت” السياسية التي هزّت العالم في أوائل ثمانينيات القرن الماضي. فخلال حرب إيران – العراق (1980–1988)، قامت إسرائيل في العام 1985، أي “العدو الإسرائيلي الذي يُعد أي تواصل معه خيانة عظمى”، بتزويد الجمهورية الإسلامية الإيرانية، في عهد آية الله الخميني، بصواريخ مضادة للدبابات وأسلحة وقطع غيار عسكرية، لمواجهة الجيش العراقي بقيادة صدام حسين.
عملية تزويد الجمهورية الإسلامية الإيرانية بالصواريخ من قبل “العدو الإسرائيلي” شكّلت جزءًا من صفقة سرية للغاية بين واشنطن وطهران، شملت، من جملة أمور أخرى، تزويد إيران بأسلحة على الرغم من الحظر الغربي على بيع الأسلحة لإيران (وهو ما أدى لاحقًا إلى فضيحة “إيران – غيت”). ومن المفيد تذكير الناشطين المتحمسين على مواقع التواصل، المحسوبين على حزب الله، بأن إسرائيل أرسلت بالفعل في أوائل الثمانينيات (1980 و1981) قبل فضيحة إيران – غيت نفسها، إلى آية الله الخميني الذخيرة والصواريخ وقطع الغيار العسكرية، في بداية حرب إيران – العراق.
السياسة الواقعية… الظروف الاستثنائية تتطلب تدابير استثنائية، على حد قول البعض. وهذا صحيح بلا شك. لكن هذا المفهوم ينطبق بشكل أساسي على الشعب اللبناني، الذي فرض عليه المتشددون والإيديولوجيون منذ أكثر من خمسين عامًا تحمّل سلسلة لا تنتهي من الصعاب، من حرب إلى أخرى، ومن معركة إلى أخرى، من دون أي تقدم حقيقي في “القضية”. لا بل على العكس تمامًا، سجلت البلاد خلال نحو ثمانية عقود سلسلة طويلة من التراجع والخسائر المتكررة. وبالتالي، بات من حق اللبنانيين اليوم أن يعيشوا حياةً طبيعيةً، بسلام وتفاهم مع جميع جيرانهم، من دون خوف أو ملامة.




