قلم الشهادة: يومٌ للضوء لا للمأتم

لبنان 6 أيار, 2025

 

في كلّ عام، يأتي السادس من أيّار مُحمّلًا بذاكرة الشهادة… لكن هل يمكن أن نراه هذه المرّة لا كيومِ حزنٍ، بل كمناسبةٍ نادرةٍ للاحتفال بالقيمة التي لا تموت؟ ففي زمنٍ يتآكل فيه الصّدق وتُطوّقُ الحقيقة بأسلاك المصالح، يبقى شهداء الصحافة أوفياء للمعنى الأسمى: أن تكون شاهدًا لا تابعًا، ناقلًا لا مُحابيًا، حرًّا لا خائفًا. هؤلاء الذين لم يكتبوا بالحبر فقط، بل بالدمّ، لم يسقطوا في العتمة بل زرعوا في كلّ كلمةٍ ضوءًا، وفي كل صورةٍ موقفًا، وفي كل صمتٍ صراخًا.

في السادس من أيار، لا نُحيي فقط ذكرى شهداء الصحافة، بل نُعيد استحضار أسمى ما في هذه المهنة: أن تكون الكلمة جبهة، وأن يصبح القلم متراسًا. وفي زمنٍ تصير فيه الحقيقة عملةً نادرة، تظلّ دماء شهداء الكلمة وثيقةً حيّةً على أنّ في لبنان من قرّر ألّا يسكت، وألّا يساوم، وأنْ يموت كي تبقى الحقيقة حيّة.

حيّا رئيس الجمهوريّة جوزاف عون، في هذه المناسبة، “ذكرى شهداء لبنان الأبرار، كلّ الشّهداء، لا سيّما أولئك الّذين قدّموا أرواحهم فداءً للوطن وترابه المقدّس”، مشيرًا إلى أنّنا “نقف اليوم مستذكرين تضحياتهم الجسام الّتي سطّرت بالدّم صفحات مجدٍ في تاريخ لبنان القديم والحديث”. لم يكن كلام الرئيس محصورًا بالتاريخ، بل مشبعًا بروح الالتزام، حيث اعتبر أنّ استذكار الشهداء يجب أن يتجاوز الحزن إلى ترجمةٍ عمليةٍ للقيم التي استشهدوا من أجلها: الكرامة، السيادة، الاستقلال.

وركّز في كلمته على شهداء الصحافة، “أولئك الفرسان الّذين حملوا قلمًا بيد وكاميرا باليد الأخرى”، مضيفًا: “واجهوا الموت بشجاعة، ليصل صوت لبنان وصرخته إلى كل أرجاء المعمورة”. كأنّ الرئيس يُعيد تعريف الصحافيّ لا كمجرّد ناقلٍ للخبر، بل كمقاتلٍ في ميدان الحقيقة.

وفي بلدٍ كلبنان، حيث كانت الكلمة دائمًا ميدان صراع، سقط الصحافيون شهداء لا فقط في ساحة المعارك، بل في قلوب المعارك السياسية والطائفية، حاملين راية “الحقّ” في وجه الآلة الدعائية، والتعتيم. فكم من صحافيّ لبنانيّ ارتقى وهو يُغطي الحروب المتوالية؟ وكم من إعلامي استُهدف فقط لأنه أضاء على ملفٍّ فاسدٍ، أو فضح شبكة مصالحٍ أو مخططاتٍ وعمليّات ميليشيا مُعيّنة؟ من جبران تويني، إلى سمير قصير، إلى ميْ شدياق الشهيدة الحيّة وصولًا الى لقمان سليم أخيرًا، وغيرهم كُثر، تبقى الأسماء رموزًا، لا مجرّد ضحايا.

وفي هذا السياق، توجّه رئيس الحكومة نوّاف سلام بتحية إجلال إلى أرواح الشهداء، مؤكدًا أنّ “صوتهم سيبقى مدوّيًا في وجه القمع والاستبداد”، مضيفًا أنّ “حِبر قلمهم لا يزال يرسم لنا طريق الدولة السيدة، العادلة والقوية”. إنّه تعبير يُحمّل الدولة مسؤولية الحفاظ على ما استشهدوا من أجله، ويذكّر بأنّ الحرية الإعلامية ليست ترفًا، بل أساسًا في بناء الوطن.

أمّا وزير الداخليّة والبلديات أحمد الحجار، فكتب عبر “إكس”: “نقف بخشوع أمام عظمة من قدّموا أرواحهم فداءً للوطن”، ليضيف إلى البُعد الوطني بعدًا أمنيًا، وكأنّه يقول: لا أمن من دون حريّة، ولا حماية من دون احترام للكلمة.
وفي السياق نفسِه، كتب رئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميّل: “هم حماة الذاكرة”، رابطًا بذلك بين التاريخ والحرية، وبين الدم والحق.

وأضاف رئيس حزب الكتائب عبر “اكس”: “في يوم شهداء الصحافة، نجدّد العهد لمن قاوموا الظلم والاحتلال ودفعوا حياتهم ثمنًا للكلمة الحرة. هم حماة الذاكرة، وصوتهم باقٍ ليعلّم الأجيال أن لا تاريخ يُكتب إلّا بالحقّ، ولا وطن يُصان إلّا بالحقيقة”.

لقد ضاق الوطن بالمآتم، لكنّه لا يضيق بالأمل. والأمل الأكبر أن يعود السادس من أيّار مناسبةً تُكرّم الأحياء قبل الشهداء؛ أولئك الصحافيين الذين يصمدون يوميًا في وجه الابتزاز، والرّقابة، والقمع الناعم. فالشهيد ليس فقط من سقط قتيلًا، بل من اختار أن يعيش واقفًا.

وإذا كانت دماء الشهداء قد روَت الأرض، فإنّ حبرَ أقلامهم ما زال يسقي الوعي. وإنّ أعظم تكريمٍ لهم ليس نصبًا تذكاريًّا، بل بناء دولةٍ تحترم الصحافيّ، ولا تجرّمه، تحميه لا تلاحقه، تصغي إليه لا تكسره.

يوم شهيد الصحافة ليس يومًا للنحيب، بل يومًا للوفاء. وفاءٌ لحريّةٍ لا تُجزَّأ، لحقيقةٍ لا تُباع، لكلمةٍ لا تُساوِم. ولأنّ الكلمة كانت منذ البدء، ستبقى الكلمة هي الخاتمة… والخلاص.

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us