الجنوب بلا صناديق: “التوافق” يطيح بالديموقراطية المحلية

لبنان 15 أيار, 2025

على الرَّغم من الدمار الهائل الذي ألحقته الحرب الأخيرة بجنوب لبنان، ومع آلاف القتلى وقرى تحوّلت إلى أطلال، وشتات سكاني يحتاج إلى سنوات لترميمه، تُجرى الانتخابات البلدية والاختيارية في محافظتيْ الجنوب والنبطية وكأنّ شيئًا لم يكن. لكنّ الاستحقاق لا يُقارَب بوصفه محطةً للمحاسبة أو فرصةً لتصحيح المسار، بل كجرعة تحاصص جديدة، يُراد منها إعادة تثبيت هيْمنة القوى التقليدية التي تتحصَّن خلف شعار “التوافق” لتفرض تزكيةً انتخابيةً تُلغي التعدّد، وتُقصي أي صوت مستقلّ أو انتقادي. تُجرى الانتخابات البلدية والاختيارية لعام 2025 في مشهدٍ سياسيّ ملتبسٍ، تطغى عليه لغة “التزكية” على حساب حق الترشح والمساءلة الشعبية.

الجنوب بلا صناديق؟

أصدر وزير الداخلية والبلديات أحمد الحجّار تعميمًا يحدّد مهل وآليات الانسحاب من الانتخابات البلدية والاختيارية في محافظتيْ لبنان الجنوبي والنبطية، فاتحًا الباب واسعًا أمام سيناريو “الفوز بالتزكية”. ووفق التعميم، تُعلن التزكيات رسميًا إذا تساوى عدد المرشحين مع عدد المقاعد المطلوبة، ويُمنع بعدها الفائزون بالتزكية من الانسحاب، باستثناء تقديم استقالةٍ لاحقةٍ وفق القانون.

أمّا في حال تراجع عدد المرشحين إلى ما دون النصاب القانوني، فلا تجري التزكية وتُعلن المراكز شاغرة بانتظار انتخابات فرعية. وقد حدّدت المهل النهائية لقبول الانسحاب أو الترشّح في 18 و20 و23 أيار تواليًا.

من الترشح إلى التهميش: كيف يتفكك الحق الديموقراطي؟

ما يُثير الجدل هو سعي الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل) إلى فرض توافقاتٍ تقود إلى تزكيات إلغائية. ويُسوَّق هذا المسار بوصفه “تجنيبًا للقرى الصدامات الانتخابية في ظرفها الحرج”، لكنّ الواقع يُشير إلى تقويضٍ ممنهجٍ للحق في الترشّح، وفرض خياراتٍ مغلقةٍ تمنع المجتمعات من مساءلة من يدير شؤونها البلدية.

اللّافت أنّ هذا النهج لا يقتصر على الثنائي، إذ انسحب على بعض قوى المجتمع المدني وبعض الفاعلين السياسيين التاريخيين الذين شاركوا في اللعبة التوافقية، وقبلوا المشاركة في “لوائح مشتركة” يُمنحون فيها مقاعد رمزية مقابل الصمت عن الهيمنة والقرار الأحادي.

أرقام جنوبية تحت المجهر

بحسب المعلومات الرّسمية، بلغ عدد المرشحين في قضاء صيدا وحدَه نحو 1145 مرشحًا للمجالس البلدية (من ضمنهم 111 في مدينة صيدا)، مقابل 324 مرشحًا للمخاتير، و93 مرشحًا لعضوية المجالس الاختيارية. هذه الأرقام تعكس حجم الحماسة السياسية في بعض المناطق، لكنّها قد تتراجع تدريجيًا بفعل موجة الانسحابات المنتظرة بهدف إنجاح سيناريو التزكية.

وقد أنهت محافظة الجنوب، برئاسة المحافظ منصور ضو، مرحلة تلقّي طلبات الترشّح في 13 أيار 2025، لتنتقل الآن إلى دراسة الانسحابات وتحديد إمكان إعلان الفائزين بالتزكية في مجالس عدد من القرى والبلدات.

تعديلات انتخابية تحت المجهر

أصدر وزير الداخلية أيضًا قرارات عدّة عدّلت عدد أعضاء المجالس البلدية والمخاتير في بلدات عدّة أبرزها:

• الخريبة (بعلبك): رفع عدد أعضاء المجلس البلدي من 12 إلى 15.

• الغازية، بنعفول، يارين، معروب، يانوح، عيتا الجبل، شقرا، قلاويه: زيادات ملحوظة في عدد المخاتير، ما يعكس محاولةً لاستيعاب المطالب المناطقية، لكنها قد تُستخدم أيضًا لتعزيز شبكات الزبائنية في بعض المناطق.

هل التزكية توافق أم احتكار؟

الحديث عن التوافق يفترض تحقيق شرطيْن أساسييْن:

1. رئيس مجلس بلدي مستقل وموضع ثقة عامة.

2. عدم احتكار النصاب القانوني لضمان تمثيل متوازن.

لكن ما يحدث فعليًا هو العكس: احتكار الرئاسة والنصاب معًا من قبل جهة سياسية واحدة، ثم توزيع المقاعد الباقية بشكل تزييني، في ما يشبه واجهة “التنوّع”، بينما القرار الفعلي مُحتكر بالكامل.

هكذا تُختزل المشاركة السياسية في مسرحية تزكيات تفتقر إلى أي مضمون ديموقراطي، وتُستخدم لتكريس الزبائنية السياسية التي ترسّخت منذ التسعينيّات، خصوصًا بعد 2005، حين بدأ المشروع الإلغائي بإقصاء أي صوت معارض في الجنوب والبقاع والضاحية.

المجتمع المدني يرفض لعبة التزكية

في مواجهة هذا المشهد، برزت لوائح المجتمع المدني في بعض القرى والبلدات، التي رفضت الدخول في هذه التوافقات الشكلية. وعبّرت عن تمسّكها بحقها في خوض المعركة الديموقراطية، ورفض الاستتباع لمنظومةٍ تعتبر البلديات مزارع مغلقة لا مساحة فيها للتنوّع أو المحاسبة.

هذه المبادرات، وإن كانت محاصرةً ومهددةً بخطاب التخوين، تشكّل محاولاتٍ جادةً لكسر الأحادية واستعادة السياسة من قبضات السيطرة والإلغاء.

بحسب صحيفة “الشرق الأوسط”، وفي التقديرات الأولى، وعلى الرغم من الحديث عن تزكيات في بلدات مثل كفركلا، وبني حيان، واحتمالات التزكية المرتفعة في الطيبة (وهي قرى حدودية مع إسرائيل)، سُجلت ترشيحات ومنافسات في مدينتيْ صور، والنّبطية، كذلك في بلداتٍ كبيرةٍ مثل الخيام، وأنصار، وحولا، وعيترون، وكفررمان، وبلدات صغيرة مثل اللوبيا في قضاء الزهراني التي يبلغ عدد أعضاء مجلسها البلدي 9 فقط، وترشّح فيها 3 مستقلين في وجه 9 ضمن اللائحة الائتلافية.

بين الصوت الانتخابي ولغة التخوين

في بلداتٍ عدّةٍ، ارتفع خطاب التخوين الذي يربط بين الترشح بوجه الثنائي وبين “خيانة دم الشهداء”. لكنّ الحقيقة أن “دماء الشهداء” يجب أن تُصان بالحقيقة والمساءلة، لا بتعليب الناس في صناديق مغلقة. وإن كانت الحرب قد دمّرت الحجارة، فهي لا تبرّر تدمير السياسة وحق المواطنين في اختيار ممثليهم.

التزكية ليست توافقًا حين تُفرض على الناس بالقوة المعنوية أو المادية، أو عبر استثمار الحرب لتخويف النّاخبين. إنّ ما يجري في الجنوب اليوم ليس إلّا محاولة لتجديد البيْعة لمنظومةٍ تدّعي الحماية، لكنها تُقصي وتحتكر، بينما الناس ينتظرون مَن يُعيد بناء منازلهم، لا من يحتكر قرارهم.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع ذات صلة :

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us