عودة في قداس لراحة نفوس ضحايا 4 آب: كفى عرقلة للتحقيق

لبنان 3 آب, 2025

ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها المطران الياس عودة خدمة القداس الإلهي في كاتدرائية القديس جاورجيوس، وأقام جنازا لراحة نفوس ضحايا 4 آب الذين سقطوا في مستشفى القديس جاورجيوس وفي بيروت. حضر القداس حشد من المؤمنين بالإضافة إلى مدير مستشفى القديس جاورجيوس الجامعي مع الأطباء والموظفين فيه وأهالي الضحايا.

بعد قراءة الإنجيل ألقى عظة قال فيها: “نعاين في إنجيل اليوم ربنا يسوع المسيح خارجا من السفينة، ناظرا إلى الجمع الكثير، متحننا عليهم وشافيا مرضاهم. هذه النظرة الإلهية المملوءة حنانا هي نظرة الراعي الصالح الذي لا يطيق رؤية خرافه مطروحة بلا معين. نظر إليهم لا بعين القاضي الغاضب بل بعين الأب الرؤوف الذي يتألم لوجع أبنائه، فاقترب منهم ولمس ضعفهم وأقامهم من بؤسهم وأوجاعهم. لما صار المساء تقدم إليه تلاميذه قائلين: «المكان قفر والساعة قد فاتت. فاصرف الجموع ليذهبوا إلى القرى ويبتاعوا لهم طعاما». لكن الرب لا يرسل الإنسان خائبا فارغا لذلك قال لتلاميذه: «لا حاجة لهم إلى الذهاب. أعطوهم أنتم ليأكلوا». هكذا يعلمنا الرب درس الرحمة الحقيقية، فلا نكتفي بالتعبير عن العاطفة الباردة قولا، بل نترجم محبتنا فعلا وخدمة وبذلا. قال له تلاميذه: «ما عندنا ههنا إلا خمسة أرغفة وسمكتان» فأخذها الرب وأمر الجموع أن يتكئوا على العشب، ورفع نظره نحو السماء وبارك وكسر وأعطى التلاميذ والتلاميذ أعطوا الجموع فأكلوا جميعا وشبعوا «ورفعوا ما فضل من الكسر إثنتي عشرة قفة مملوءة، وكان الآكلون خمسة آلاف رجل سوى النساء والصبيان». إنه حقا لسر عظيم”.

أضاف: “الله لا يطلب منا ما ليس عندنا، لكنه يسألنا عما لدينا، مهما بدا صغيرا أو تافها في عيون الناس. فإذا قدمناه له بإيمان، يباركه ويضاعفه ويجعله بركة للعالم أجمع. الله هو الإله الذي من ضعفنا يظهر قوة، ومن فقرنا يخرج غنى، ومن بخلنا يصنع سخاء، إذا فتحنا له القلب. أراد الرب أن يشرك تلاميذه في هذا العمل الخلاصي فجعلهم يوزعون الطعام على الجموع. يريدنا ربنا أن نكون أدوات لرحمته لا متفرجين على عجائبه وحسب. يجعلنا شركاء في تحقيقها، لأن المحبة، إذا لم تترجم عملا ملموسا، تبقى وهما وكلاما أجوف لا يحيي ولا يشبع. إن الله قادر أن يشبعنا بكلمة أو بفعل لكنه يشاء أن يتم العطاء بواسطتنا نحن البشر لكي نتعلم العطاء ولكي يقدس قلوبنا ويطهرها من الأنانية والجشع فنكون مثله رحماء نعطي ونساند كل متألم ومهمش”.

وتابع: “ها نحن اليوم، في هذا البلد المتألم، نأتي إلى الرب حاملين أمامه جوعنا ومرضنا وآلامنا وخوفنا. نأتي إليه حاملين ذكرى موجعة هزت ضمير العالم فيما بقيت بعض الضمائر عندنا صماء عن الحق وعن آلام الشعب وعذاباته. نقف أمام الرب حاملين جراحنا وجراح وطننا لبنان. نأتي إليه مستذكرين، بقلوب دامية، تفجير الرابع من آب، ذلك اليوم المشؤوم الذي دوى فيه إنفجار الظلم والفساد والإهمال في قلب عاصمتنا الحبيبة بيروت، فهز أركانها ودمر أحياءها، وخطف حياة الأبرياء، وخلف الجرحى، وزرع الخراب في آلاف البيوت، ما جرح القلوب وأدماها. لم يكن إنفجار مواد كيميائية وحسب، بل إنفجار ضمائر ميتة، ضمائر من باعوا الحق بثمن بخس، فدمروا الإنسان قبل الحجر. هذا الإنفجار لا يزال جرحا مفتوحا في جسد بيروت، ووصمة عار على جبين كل من عرف ويعرف ولم يبح بالحقيقة أو خبأها وساهم في إخفائها وطمسها، أو رفض المثول أمام المحقق”.

وقال: “إن الرب الذي لم يترك الجموع جائعة ومتعبة، بل أشبعها، هو نفسه الرب الذي يبغض الظلم ويرذل التواطؤ والسكوت عن الحقيقة. سوف نصلي اليوم للضحايا الشهداء، وللأحياء المعذبين والقلوب الثكلى، لكن صلاتنا لا تكتمل إن لم نصرخ في وجه الشر والباطل. ما نفع صلاتنا إن بقيت بلا فعل حق، وما نفع سجودنا إن صمتنا عن كلمة عدل. إن الرب نفسه قال: «ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون… لأنكم تشبهون قبورا مجصصة تظهر من خارج جميلة وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة». إذا صمتنا عن الحق وخنقنا الصوت النبوي الذي فينا خوفا أو نفاقا أو مصلحة نصير نحن قبورا نتنة. فيما رفض الرب صرف الجموع بلا طعام نجد دولتنا، منذ خمس سنوات، تترك شعبها بلا حقيقة ولا عدالة. الرب لم يطرد الجموع ولا ارتضى أن يبقوا جائعين، أما مسؤولو هذا الزمان فقد أغلقوا آذانهم وقلوبهم، تركوا الأيتام بلا جواب، والأمهات الثكلى بلا عزاء، والآباء المكسورين بلا كلمة حق. كيف ينامون مرتاحي البال فيما آلاف العائلات تنتظر معرفة من أزهق نفوس أبنائها أو شردها؟ كيف يستطيع القاضي أو النائب أو الوزير أو من له علاقة بهذه الكارثة أن يتابع حياته بشكل عادي فيما أمهات بيروت يقضين الليالي بالدموع والوجع، وبعض المصابين ما زالوا يئنون؟ كفى عرقلة للتحقيق، وصمتا عن قول الحق، وخوفا على المصالح”.

أضاف: “إن تفجير الرابع من آب لم يكن زلزالا طبيعيا ولا مصيبة عارضة، إنما كان نتيجة الإهمال والفساد والتقصير والتواطؤ وعدم المبالاة. أما ضحاياه فلم يقترفوا ذنبا ليعاقبوا، ولم يشنوا حربا ليقتلوا، ولم يشاؤوا الموت ولم يطلبوا الشهادة ولا أرادوا قضاء بقية حياتهم في الأوجاع، ولا ترك بيوتهم أو أحيائهم أو مدينتهم. لقد دفع بعضهم دفعا إلى هجر منازلهم المدمرة لأنهم لم يجدوا من يساعدهم على بنائها أو من يعزي قلوبهم المكلومة أو من يحمي أولادهم من كارثة أخرى. أهل بيروت لم يغادروها طوعا. من غادروا أجبروا على الإنتقال إلى منطقة أخرى أو الهجرة لأنهم شردوا، ولأنهم أهملوا وقهروا، ولأنهم يئسوا من المماطلة في إعلان الحقيقة وتطبيق العدالة. غادروا كما غادر سواهم من اللبنانيين قبلهم خوفا أو قرفا أو خيبة وإحباطا أو هربا من التهديد والوعيد. وعندما استقروا وتحسنت أوضاعهم أصبحوا مصدر تمويل للداخل، والصندوق الذي يقصد عند كل ضيق. هؤلاء حرموا من العيش في وطنهم، والآن هناك من يحاول سلخهم مجددا عن وطنهم بحرمانهم من حقهم في التعبير عن رأيهم، واختيار نوابهم الذين يتكلمون باسمهم، ويدافعون عن حقوقهم في وطنهم. لذلك، نصلي اليوم ونسأل الرب بشفاعات والدة الإله وجميع قديسيه أن يرسل روح القوة والحق إلى قلب القضاة ليعملوا بلا خوف، ويطلبوا المحاسبة لكل مذنب، وأن يلين قلوب المسؤولين ليتخلوا عن كبريائهم ومصالحهم ويعملوا على إحقاق الحق، وأن يقيم في هذا الوطن رجالا ونساء يخافون الله أكثر من البشر، ويطلبون ملكوت الله وبره قبل كل شيء”.

وتابع: “بارك الرب خمسة أرغفة وسمكتين وأشبع منها الآلاف. نحن اليوم ليس عندنا سوى القليل: قلب منكسر ودمعة محرقة وصلاة موجوعة وصوت يصدح بالحق دون خوف أو وجل، لأن الصامت عن الحق لا يحبه الله. قال يعقوب الرسول: «من عرف كيف يصنع الخير ولم يصنعه ارتكب خطيئة» (4: 17). ونقرأ في سفر الأمثال: «إفتح فمك لأجل الأخرس في قضية كل أبناء الخذلان. إفتح فمك واحكم بالعدل وأنصف البائس والمسكين» (31: 8-9). فلنقدم هذا القليل الذي نملكه للرب بثقة، ولنعمل بكل ما أوتينا من محبة وصلاة وتصميم على قول كلمة الحق بجرأة ، لكي يشبع الرب جوع قلوبنا إلى العدالة. قد لا نستطيع كشف الحقيقة بأيدينا، لكننا قادرون أن نكون شهودا للحق، نربي أبناءنا على رفض الظلم والقهر، وننشر حولنا ثقافة العدل والرحمة والمسؤولية والسلام، ولا نتخلى عن إنسانيتنا أمام قسوة هذا العالم وهمجيته. ليكن رجاؤنا ثابتا بمن أقام الموتى وشفى المرضى وأشبع الجياع بكلمة، وهو قادر أن يقيم هذا الوطن من موت الظلم إلى قيامة النور والحق، وأن يشرق شمس عدالته على بيروت الجريحة، وعلى لبنان المعذب، وأن يملأ كل قلب محزون بتعزية الروح القدس الذي لا يترك مظلوما بلا إنصاف، ولا حزينا بلا عزاء. إطمئنوا «لأنه ليس خفي لا يظهر ولا مكتوم لا يعلم ويعلن» (لو 8: 17) كما قال الرب يسوع”.

وختم: “سوف نرفع الصلاة معا من أجل راحة نفوس أحباء أزهقت أرواحهم فيما كانوا في مستشفى القديس جاورجيوس يستشفون أو يزورون المرضى أو يعالجونهم. مرضى وممرضات وزوار أصابهم الإنفجار كما أصاب المستشفى وبيروت وأهلها، وخلف جرحا لم يندمل وألما لن يستكين قبل معرفة الحقيقة وإرساء العدالة. صلاتنا نرفعها أيضا من أجل راحة نفوس كل الضحايا، لكي يغمرهم الرب برحمته ويمنحهم السلام الذي لم يعرفوه على هذه الأرض”.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع ذات صلة :

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us