سوروس في لبنان: كيف تُدار الانتفاضات وتُباع الدول باسم المجتمع المدني؟!

لبنان 20 كانون الأول, 2025

في عام 2017، لم يُلقِ فيكتور أوربان خطابًا سياسيًا عاديًا، بل سمّى خصمًا، وكشف منظومةً، وحدّد منهجًا. إذ أعلن رئيس الوزراء الهنغاري آنذاك أنّ جورج سوروس قدّم منذ عام 2015 خريطة طريق إيديولوجية — “خطة سوروس” — تهدف إلى إعادة تشكيل أوروبا بعمق، عبر تحويل الهجرة الجماعية إلى سياسة بنيوية.

وبحسب أوربان، فإنّ الهدف واضح: دفع الاتحاد الأوروبي إلى استقبال ما لا يقل عن مليون طالب لجوء سنويًا، وفرض آليات مالية دائمة لتغطية الكلفة، وتنظيم “قنوات آمنة” لنقل المهاجرين من اليونان وإيطاليا إلى مختلف دول الاتحاد. ومن وجهة نظره، لا نتحدث عن أزمة هجرة، بل عن استراتيجية، تكون فيها الهجرة أداة لإضعاف السيادات الوطنية، وتجاوز الإرادة الشعبية، وإعادة رسم التوازنات السياسية في القارة.

هذه القراءة — المختلف حولها بين من يرفضها ومن يكرّرها — تشترك في أمر واحد: إنها تصف رجلاً بعينه، وأكثر منظومة متكاملة. نموذج عمل تتشابك فيه الأموال، والمناصرة، والمنظمات غير الحكومية، والإعلام، لتوجيه مجتمعات بأكملها. وهو بالضبط النموذج الذي يرى منتقدو سوروس أنّه يتكرّر في لبنان.

لبنان، المختبر المثالي: أزمة، غضب، وفراغ سياسي

منذ عام 2019، تحوّل لبنان إلى ساحة استثمار أساسية لشبكة “مؤسسات المجتمع المفتوح” (OSF) التي أسّسها سوروس. وتُشير مصادر إلى أنّ المبالغ التي صُرفت ما بين عامي 2019 و2021 تراوحت إجمالًا ما بين 10.5 و12.8 مليون دولار، مع ذروة في عام 2020، وهو عام بلوغ انتفاضة تشرين ذروتها.

اللّافت ليس حجم التمويل فحسب، بل منطقه. فبحسب المعطيات المتداولة، خُصّص نحو 9% من التمويل للإعلام، و5% للعدالة، و7% لحقوق الإنسان، فيما وُجّهت حصص وازنة للاقتصاد وبرامج المساواة ومكافحة التمييز. أي أنّ الأمر لا يقتصر على دعم اجتماعي، بل يشمل تمويل السرديّات، والأطر القانونية، وشبكات النفوذ، والرافعات السياسية.

“الثورة المضادّة الوقائية”: منهج سوروس كما يراه منتقدوه

يؤكد منتقدو سوروس أنّ “عبقريته” لم تكن يومًا في “المساعدة”، بل في الاستباق: استباق الاحتجاج، ضخّ الموارد فيه، تنظيم المجال العام عبر منظمات رديفة، استقطاب الخبراء، صناعة منابر إعلامية، ثم توجيه الطاقة الشعبية نحو أهداف منسجمة مع أجندة عابرة للحدود.

وهذا ما يصفه بعضهم بـ”الثورة المضادّة الوقائية”: بدل قمع الثورة بعد اندلاعها، يتمّ امتصاصها قبل أن تتحول إلى قوة سياسية مستقلّة. يُعاد تدوير شعاراتها، ويُحتَرف قادتها، ويُضبط خطابها، ويُجعل مقبولًا خارجيًا… فتُحيَّد قدرتها السيادية.

والنتيجة، وفق هذه الأطروحة، أنّ أغلبيات شعبية محرومة من التنظيم السياسي تُصادَر انتفاضتها لمصلحة فاعلين أكثر تمويلًا، وأكثر اتصالًا، وأكثر تدريبًا — وغالبًا أكثر فائدة للجهات المانحة منها للوطن.

مجرّة من المستفيدين وأثر واحد: نقل مركز الثقل

تُذكر ضمن الجهات والمنظمات القريبة من منظومة OSF أو المستفيدة منها أسماء عديدة،
منها: “Legal Agenda” ،”AFAC” ،”LADE”، موقع درج، الجامعة الأميركية في بيروت، حلم، CARE، بسمة وزيتونة، كلنا إرادة، “The Public Source” ،”Megaphone”، وغيرها. واللافت هو العدد والانتشار والتغلغل في قطاعات استراتيجية.

وبحسب مقاطع متداولة من وثيقة داخلية مسرّبة عن الاستراتيجية الإقليمية (2014–2017)، فإنّ الطموح لا يقتصر على لبنان، بل يشمل رهانًا على “استعادة” جامعة الدول العربية كمنصة ضغط. وهو، في نظر منتقدي سوروس، توقيع المنهج ذاته: الاستثمار في الأدوات المؤسسية، لا في القضايا فقط.

“Legal Agenda”: استقلالية على جهاز تنفّس مالي

تُقدَّم حالة “Legal Agenda” بوصفها نموذجية. فقد تلقت، بحسب منتقديها، تمويلات كبيرة منذ عام 2011، ما يثير تساؤلات حول “نشاط مشروط”: استقلال مُعلن، لكن الأكسجين المالي يأتي من الخارج. وقد وُضع مديرها، نزار صغيّة، في قلب جدل بعد استدعائه من نقيب المحامين، في سياق توتّر مرتبط بحرية تعبير المحامين في الإعلام.

بالنسبة لمنتقدي المنظمة، لا يكمن السؤال في الحريات العامة، بل في كيفية تحوّل منظمة غير حكومية مموّلة أجنبيًا إلى فاعل شبه مؤسسي، قادر على التأثير في الأجندة الوطنية من دون أي مساءلة ديمقراطية: لم ينتخبها أحد، ولا يُخضعها أحد للرقابة، لكنّها تتحدث باسم القانون والعدالة والشعب.

سوروس بين المضاربة والقوة: صورة بعيدة عن “المحسن الرومانسي”

تتآكل صورة “فاعل الخير” حين يستحضر منتقدوه سجله الجدلي: إدانته بتهمة التداول بناءً على معلومات داخلية في فرنسا عام 1988، ودوره في “الأربعاء الأسود” عام 1992 والمضاربة على الجنيه الإسترليني، ومعاقبته في هنغاريا عام 2009 بتهمة التلاعب بالأسواق.

في نظر معارضيه، هذا الماضي ليس تفصيليًا، بل يعكس ثقافة عمل مالية هجومية، لا تكتفي بتلقّي الأزمات، بل تستثمر فيها.

ومن هنا السؤال اللبناني: هل كانت الأزمة فرصة؟

تشرين 2019: ثورة أم “ثورة ملوّنة” مُعاد تدويرها؟

انطلقت انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 من واقع محلي شديد الانفجار: دين عام غير قابل للاستدامة، شحّ الدولار، نظام مصرفي هش، وفقر متصاعد. وكانت شرارة “واتسآب” كافية لإشعال بلد على حافة الهاوية.

لكن سرعان ما برزت قراءة أخرى: قراءة “الثورات الملوّنة” — حركات منظّمة، شعارات جامعة، تعبئة لا عنفية، استخدام كثيف لوسائل التواصل، تحالفات عابرة، سردية بسيطة قابلة للتصدير، وتضخيم دولي. نموذج موثّق في تجارب أخرى (صربيا، جورجيا، أوكرانيا)، ويرى بعض المراقبين أنّ لبنان أعاد إنتاجه، خصوصًا عبر شبكات جمعوية وإعلامية ممولة بسخاء.

التعثّر المالي: الصدمة التي قتلت صدقيّة لبنان

في 7 آذار 2020، أعلن حسان دياب التخلّف عن سداد الديون. دافع عنه البعض باعتباره خيارًا لا مفرّ منه، واعتبره آخرون قرارًا كارثيًا — وربّما مقصودًا.

تقول مصادر إن مصرف لبنان كان قادرًا على سداد استحقاقات 2020–2022، وإن بدائل كانت متاحة (إعادة جدولة، طلب موافقة الدائنين، مفاوضات جدية). ومع ذلك، اختير الخيار الأكثر تدميرًا: الخروج الطويل من الأسواق، تدمير السمعة، تسريع الانهيار، وفتح مسار تتحوّل فيه الدولة إلى أصل معروض للتصفية.

وفي هذا السياق، يُقال إنّ أطرافًا محسوبةً على الوسط “الإصلاحي” دفعت نحو التعثّر. وتُذكر “كلنا إرادة” على أنّها دعت إلى “التخلّف الفوري عن السداد”. خطوة ذات تبعات جسيمة، يقرأها منتقدوها كفعل تأسيسي: هدم النظام القديم، ثم إعادة البناء بحكّام جدد أكثر انسجامًا مع المانحين.

حزب الله: المستفيد البُنيوي

يشير النص أيضًا إلى نقطة شديدة الحساسية: التعثّر، مع انهيار العملة، أفاد الجهات التي تملك إيرادات بالدولار، وعلى رأسها حزب الله. وتُستحضر تقديرات دولية (منها Rewards for Justice) تتحدّث عن موارد سنوية تقارب مليار دولار، عبر إيران، والاستثمارات، والشبكات والأنشطة المالية.

ضمن هذه القراءة، لا يكون التعثّر حدثًا اقتصاديًا فحسب، بل إعادة توزيع لموازين القوى.

نحو “استحواذ بالرفع المالي على دولة”

تبلغ القراءة ذروتها هنا: لبنان دخل منطق “الاستحواذ بالرفع المالي” المطبّق على دولة. التسلسل معروف: إضعاف، تعثّر، تخفيض قيمة العملة، فرض “إصلاحات”، إعادة هيكلة مشروطة، ثم فتح الأصول الاستراتيجية (النفط والغاز البحري، العقارات، الاتصالات، البنى التحتية) أمام منطق الاستثمار والالتقاط.

في هذا التصوّر، تصبح المنظمات المموّلة، والإعلام المدعوم، والخبراء “المعتمدون”، والمكاتب والجهات المانحة، مهندسي “لبنان جديد”: أقل سيادة، أكثر تبعية، وأكثر “قابلية للإدارة”.

السؤال المقلق

لا يهدف هذا الطرح إلى تبرئة الطبقة السياسية القديمة. لكنّه يطرح سؤالًا قاسيًا ومشروعًا: مَن أمسك بزمام الأزمة؟ ولماذا؟

فإذا صحّت هذه القراءة، فإنّ سوروس لا يموّل لبنان لإنقاذه، بل لإعادة تشكيله: استبدال نخب بأخرى، إنشاء مؤسسات زبائنية، توجيه السياسات العامة، التأثير في القضاء والإعلام والسردية الوطنية — وفي النهاية تحويل بلد إلى ورشة دائمة، تصبح فيها السيادة متغيّرًا قابلًا للتعديل.

في هذه الحالة، لا يكون المجتمع المدني حلًا، بل أداة. ولا تكون الثورة حدثًا تاريخيًا، بل منتجًا… له مستثمرون، ومديرون، ومستفيدون.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع ذات صلة :

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us