“قانون الفجوة المالية”: ضربٌ لصناديق التقاعد ويمنح الدولة براءة ذمّة من أموال المودعين

لبنان 26 كانون الأول, 2025

خرج نواف سلام في الأيام الماضية مبشّرًا اللبنانيين بوضع الحكومة مشروع قانون يُشكّل ما أسماه “خريطة طريق واضحة للخروج من أزمة طال أمدها كثيرًا”، وهو مشروع قانون الفجوة المالية. لن نكرّر التفاصيل المدمّرة لهذا القانون الذي يطيح بالمصارف ورساميلها، ومعها المودعين والقطاع الخاص، ويحرم المتقاعدين من أموالهم والمغتربين من جنى عمرهم، ويعطي الدولة اللبنانية براءة ذمّة عن كل ما اقترفته من هدر وفساد وسرقة على مدى عشرات السنين. القانون الذي يحمّل المصارف كامل تغطية الفجوة المالية ويُعفي الدولة، ومعها مصرف لبنان، من تحمّل أي أكلاف فعلية، أشعل حالة غضب في الشارع، ليس فقط بين المودعين، بل أيضًا بين النقابات والجمعيات والمهن الحرة وأركان القطاع الخاص.

يلحظ مشروع قانون الفجوة المالية ثغرات جوهرية تمسّ بحقوق مكتسبة وأساسية، في طليعتها الإغفال التام لأي نصوص صريحة وواضحة تتعلّق بحماية أموال وودائع النقابات والصناديق التقاعدية. فتجاهل مصير أموال الصناديق التقاعدية لا يمكن التعامل معه على أنّه تفصيل ثانوي أو مسألة قابلة للتأجيل أو التسويف. وأموال النقابات والصناديق التقاعدية هي حقوق خاصّة ومقدّسة تعود لأصحابها، ولا يجوز المساس بها تحت أي ذريعة أو عنوان تشريعي. وهنا تُطرح تساؤلات كثيرة حول مشروع القانون الذي أعدّته الحكومة: فكيف يعتبره سلام خطوة واقعية ومنصفة على طريق استعادة الحقوق ووقف الانهيار، فيما تؤكّد المواقف التي صدرت عن أهم النقابات والهيئات والخبراء في الأيام الماضية عكس كلام نواف سلام؟

نقابة المحامين في بيروت اعتبرت أن مشروع الفجوة المالية يشكّل شطبًا للودائع بدل استعادتها، وأشارت إلى أن مشروع القانون المطروح يشكّل تكريسًا وتشريعًا للكارثة بحق المودعين، خاصةً لناحية تحويل ما يُسمّى بخسائر الودائع إلى أمر واقع بحكم القانون. وأبدت النقابة خشيتها من أن يكون “مشروع الفجوة المالية يهدف إلى إقفال أزمة عمرها سنوات بدلًا من حلّها، وشطب الودائع بدلًا من استعادتها، وتبرئة القيمين على الدولة ومتولّي السلطة خلال الحقبة التي تميّزت بهدر الأموال العامة وسوء الإدارة والفساد، ما أدّى إلى وقوع الكارثة الكبرى سنة 2019”.

نقابة أطباء الأسنان رفضت ما ورد في مسودة قانون “الفجوة المالية” لجهة تجاهل خصوصيّة صناديق المهن الحرة عمومًا، ولا سيما صندوق التقاعد والتعاضد الخاص بنقابة أطباء الأسنان. وأكّدت النقابة في كتابها أن طبيب الأسنان اللبناني، الذي واجه خلال السنوات الماضية أصعب الأزمات الاقتصادية والمعيشية، يستحق اليوم حماية حقوقه الاجتماعية وعدم استهداف مدّخراته. وحذّرت من أن إخضاع هذه الأموال لأي اقتطاع أو تأجيل طويل الأمد من شأنه أن يضرب الأمن الاجتماعي للجسم الطبي ويُلحق أضرارًا جسيمة بجميع الأطباء المنتسبين إلى النقابة.

نقابة المعلّمين رفعت الصوت رفضًا لما تضمّنه قانون الفجوة المالية لجهة عدم لحظ كيفية التعاطي مع أموال النقابات والصناديق. فصناديق التقاعد النقابية تشكّل أمانًا اجتماعيًا، كونها اشتراكات خاصّة مخصّصة لضمان الشيخوخة، وليست ودائع استثمارية أو أموالًا مخصّصة للمضاربة. أمّا الصناعيون، فقد رفعوا الصوت أيضًا واعتبروا أنّ مشروع القانون الذي وضعته الحكومة، وفي حال أطاح بالمصارف، نكون أمام كارثة كبيرة، حيث ستتبخّر أموال الصناعيين، والأهم أن ضرب القطاع المصرفي يعني ضرب الأمل إلى الأبد باستعادة خطوط التمويل الاستثماري للمشاريع الصناعية وصيانة المعامل، وهنا تكمن الكارثة. فالقانون المقدّم بصيغته الحالية يشير بوضوح إلى تحميل المصارف الكلفة الأكبر من الفجوة، ما يعني حكمًا إفلاسها.

بدورهم، من المتوقّع أن يدعو أصحاب المهن الحرة والهيئات الاقتصادية إلى اجتماع موسّع لاتخاذ موقف موحّد من مشروع القانون وتنسيق الخطوات النقابية التصعيدية والقانونية اللازمة عند الاقتضاء، دفاعًا عن الحقوق التقاعدية وصونًا للأمن الاجتماعي والمهني. وتؤكّد مصادر أصحاب المهن الحرة والهيئات الاقتصادية أن مشروع قانون الانتظام المالي واسترداد الودائع، أو ما يُعرف بقانون الفجوة المالية، يجب أن يكون نصًّا تشريعيًّا أساسيًّا يمهّد ويؤسّس لمرحلة النهوض المالي والاقتصادي في لبنان، لا مشروعًا مدمّرًا، إذ إن مشروع القانون يضرب المودعين كبارًا وصغارًا، وخصوصًا أموال النقابات والمهن الحرة، كونه يؤدّي إلى اقتطاع مبالغ ضخمة من الودائع.

معظم الخبراء والقانونيين يؤكّدون أن مشروع القانون المطروح غير مستند إلى أسس موضوعية، ويُناقض المبادئ الدستورية العامة والمادة 15 من الدستور، كما يُناقض مبادئ العدالة والمساواة واحترام المواثيق وحقوق الإنسان، ويُعفي الدولة من موجباتها ومن الإيفاء بالتزاماتها. كما أنّ تطبيق تراتبية الحقوق (Hierarchy of Claims) لتغطية فجوة مصرف لبنان سيؤدّي إلى اقتطاع من ودائع المودعين، إضافةً إلى التشوّهات القائمة أصلًا. أمّا الدولة التي تنصّلت من كامل مسؤولياتها في مشروع القانون، فتُظهر السجلّات الرسمية لدى مصرف لبنان أن الدولة مدينة له بما لا يقل عن 16.5 مليار دولار، وهو مبلغ اعترفت الدولة بإنفاقه لتسديد سندات يوروبوندز وفوائدها وغيرها من الالتزامات، من دون تحديد آلية السداد، ما يعني وعودًا من دون إيفاء. كما ترتّبت ديون جديدة على الدولة بعد عام 2019 تتجاوز قيمتها 13 مليار دولار، منها 10 مليارات نتيجة سياسات الدعم للمحروقات وغيرها التي أقرّتها حكومة حسان دياب، و3 مليارات دولار مدفوعات سدّدها مصرف لبنان عن الدولة لتسديد قروض للمؤسسات والصناديق الدولية، ولشراء الفيول لمؤسسة كهرباء لبنان بين عامي 2020 و2023. وبالتالي، فإن الدولة مدينة لمصرف لبنان، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بما مجموعه نحو 30 مليار دولار، فيما تقدّم الحكومة مشروع قانون يمنح الدولة براءة ذمّة من حسابات المودعين.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع ذات صلة :

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us