انطلاقًا من بيان المصارف النظام المصرفي اللبناني ركيزة النظام الدستوري والثقة بلبنان!

كتب د. أنطوان مسرّه لـ”نداء الوطن“:
تتجاهل دراسات ونقاشات وسجالات حول المصارف في لبنان موقع المصارف في لبنان بالذات وفي النظام الدستوري اللبناني. نستخلص ذلك من واقع المصارف، بخاصة خلال الحروب المتعددة الجنسيات في لبنان في السنوات 1975-1990.
ليست قضية المصارف في لبنان مسألة محض قانونية واقتصادية ومالية وودائع، بل هي في أساس البنيان الدستوري اللبناني ولبنانيًا. مرتكزات لبنان هي التالية: الدستور واحترامه نصًا وروحًا، عروبة حضارية، وإشعاع عالمي بفضل الاغتراب، القيم التأسيسية التي تبلورت في المرحلتين المفصليتين بين 1920 و1943 والنظام المصرفي الذي يصفه بالتفصيل أحد الباحثين الأجانب Clément Henry Moore سنة 1983 من خلال صمود المصارف وانتشارها خلال سنوات الحروب:
Clément Henry Moore, “Le système bancaire libanais: Les substituts financiers d’un ordre politique”, Paris, Maghreb-Machrek, janv.-mars 1983, pp. 30-36.
1. صمود المصارف في 1975-1990: خلال سنوات الحروب حافظت كل المصارف على مكانتها وصدقيتها وانتشرت في كل المناطق وقاومت مجالس إداراتها كل الانقسامات والمعابر معبّرة بذلك عن صلابة الميثاق اللبناني الذي كان عرضة لانتقادات وتأويلات. إن مكانة النظام المصرفي في لبنان، “البلد الصغير والدور الكبير”، حسب تعبير ميشال أبو جوده، هو، كما في سويسرا، ملازم للنظام الدستوري اللبناني، في ثباته والثقة بلبنان واستعادة الثقة بلبنان على المدى المتوسط والطويل في منطقة مضطربة. يرتبط الموضوع بحماية حقوق المودعين وبثقة كل اللبنانيين والمغتربين ورجال الأعمال العرب والعالم العربي والعالم بالمصارف في لبنان للسنوات العشرين القادمة.
خلال سنوات الحروب المتعددة الجنسيات في لبنان تطوّر النظام المصرفي، مع امتداده جغرافيًا مُخترقًا كل الحواجز ونموذجًا معاشًا في الميثاق اللبناني في مواجهة أيديولوجيات تقسيم وتجزئة ونقض قيم لبنان التأسيسية. يعود ذلك، إلى وجود رجل دولة على رأس المصرف المركزي وهو إدمون نعيم الذي قاوم كل الضغوط! يندرج في هذا السياق البيان الهام الذي أصدرته جمعية المصارف في 15/12/2025. قد تكون الإجراءات المقترحة نابعة من دراسة تقنية وقانونية وإجرائية، ولكن ما قد ينقصها هو البُعد المؤسساتي واللبناني والثقة بلبنان داخليًا وعربيًا وعالميًا.
العبرة من رأسمال الثقة بالمصارف هي التالية: أدنى مخالفة من النظام المصرفي في لبنان في حماية الودائع، تُفقد المصارف رأسمال الثقة المتراكم، كما تُثبته مقاومة النظام المصرفي في السنوات 1975 – 1990 وقدرته على التكيف résilience طوال هذه السنوات. قد يفقد النظام المصرفي تمامًا الثقة من قبل كل اللبنانيين، وكل المودعين العرب، والعالم أجمع. قد ينهار كامل رأسمال الثقة على الأقل للسنوات العشرين القادمة. لن يلجأ أي لبناني بعدئذ، وأي عربي مُشكك بالاستقرار في وطنه، ولا أي مغترب، ولا أي مودع أجنبي، الى مصرف في لبنان إلا لمعاملات ظرفية!
إن اللادولة منذ اتفاقية قاهرة متجددة في 6/2/2006 هي المسؤولة عن واقع المال العام والانهيار المالي والمصرفي. ما يثبت ذلك، تصريح علني وبفخر لأحد الوزراء حول عدم إقرار موازنة طوال أكثر من 12 سنة على شبكة CNN في 23/12/2019: “ربما علينا أن نعلّم واشنطن ولندن كيف تديران بلدًا بدون موازنة لأن لبنان اعتاد على أي وضع صعب ولا يمكن وصف الوضع الاقتصادي في لبنان بالسيئ”!
2. السرية المصرفية تاريخيًا وارتباطها بالنظام اللبناني: تبين الخبرة التاريخية بشأن السرية المصرفية في لبنان مدى ارتباط الموضوع طوال سنوات بموقع لبنان والثقة بمتانة نظامه الدستوري. كيف يستعيد لبنان النهوض الاقتصادي؟ ليس من خلال الزراعة حيث مساحة لبنان محدودة. وليس من خلال الصناعة التي يتوجب دعمها. استطاعت سنغافورة النهوض في إطار الاقتصاد العالمي. ليس في لبنان اليوم مصارف أجنبية، بل مكاتب إقليمية بسبب تراكم مخاوف عديدة. في حال أي مخالفة تمس حقوق المودعين، سينهار كامل رأسمال الثقة بالنظام المصرفي اللبناني ولا يمكن أبدًا استعادته.
ماذا نقول للمغتربين اللبنانيين؟ اللبناني الذي جنى سابقًا ثروة في البرازيل أو أفريقيا أو أي بلد آخر، ماذا نقول له؟ لن يودع فلسًا واحدًا في لبنان! المغتربون اللبنانيون يمكنهم المساهمة في الخلاص. سنة 2019 بلغ حجم ما أرسله مغتربون إلى لبنان حواليى ثمانية مليارات دولار. وتُرسل أموال نقدًا بسبب منع التحويلات في بعض البلدان. لكن لا يعيش أي مصرف من بعض الودائع المتدنيّة. إنه لأمر مخجل لمصداقية وطن ألّا يودع لبناني أمواله في مصرف في لبنان.
حميد فرنجيه وأعضاء الوفد إلى باريس سنة 1947 دافعوا بشدة عن النظام المصرفي الليبرالي. ورئيس جمهورية سنغافورة الذي أتى إلى لبنان في عهد الرئيس فؤاد شهاب أراد التعلّم من لبنان واللبنانيّين قواعد العيش معًا. وعندما رمّم عبد الناصر قناة السويس في 23/7/1956 أصبحت القاهرة عاصمة للبورصة أهم من طوكيو! وهل نعلم كيف حافظت سويسرا على تفوّقها المصرفي؟ أي موظف في أدنى درجة في مصرف في سويسرا يعرف أن إفشاء السرية المصرفية يعرضه للملاحقة والطرد وغرامة 250،000 فرنك سويسري. لسنا بلدًا فقيرًا بل منهوبًا. والمال الذي يصل إلينا يُسرق. بعض ما يُقترح هو تدمير للنظام المصرفي في لبنان وللثقة بالكيان اللبناني بالذات.
لنتخيّل كم ستكون الثقة عارمة بلبنان في حال إقرار استعادة المصارف مكانتها كركيزة لنظامه الدستوري بالذات. المشاريع المقترحة هي عقلانية. لكن المعضلة في مكان آخر: استعادة رأسمال الثقة بالنظام المصرفي في لبنان ولبنان المستقبل!




