معاناة مزمنة لمرضى السرطان في لبنان… سكرية: محميات سياسية وطائفية تعيق تحقيق العدالة

كتبت ميرنا الشدياق لـ “هنا لبنان”:

عذراً أمّي لم أكن أعلم! لقد بتّ أشك في كلّ دواء أُعطِي لكِ لعلّه يوقف غزو الخلايا السرطانية لجسمك. كم كنا نعلّق آمالاً على دواء من هنا أو آخر من هناك يصفه لك طبيبك يخفّف من معاناتك وآلامك. وأسال نفسي اليوم بعد كل ما أسمعه من فضائح: هل وقعنا ضحية جشع يفتك بمجتمعنا؟ وكيف كان لنا أن ندقّق بكلّ علاج أعطي لك في المستشفى؟ أسئلة كثيرة تجول في خاطري لا أجوبة عليها اليوم، أما الحقيقة فواحدة: أمي ليست بيننا اليوم.
عذراً أمي لم أكن أعلم أنّ في وطني من يتاجر بآمال آلاف مرضى السرطان في لبنان من أجل البقاء.
هي المرة الأولى التي أكتب فيها مقدّمة لمقال من تجربة شخصية، إلّا أنّ ما أسمعه يوميا من معاناة مرضى السرطان، أعادني بالذاكرة خمس سنوات إلى الوراء حين هزم المرض أمي خلال عام واحد، وكانت بعمر الـ 57 عاماً. لم يكن هناك أزمة مماثلة إلّا أنّ الأدوية كانت تُفقد أحياناً، والجهات الضامنة كانت دائماً أمام عبارة شهيرة: “الموازنة لا تكفي”، أما الأخطر فهو الغش الذي كان يطال هذه الأدوية منذ سنوات حتى اليوم.
غضب، حزن، ندم… مشاعر لا يمكن وصفها أمام ما أسمعه من معاناة يومية لمرضى السرطان الذين يلجأ البعض منهم إلى سوق سوداء أو إلى أدوية بديلة لا تعرف مصادرها وما من دراسات بشأنها. هي الفوضى بحد ذاتها إن كان لجهة صعوبة التقيد بالبروتوكولات العلاجية للمرضى أو لجهة الأدوية المعتمدة.
مسلسل اختفاء أدوية السرطان لا ينتهي فصولاً منذ سنوات، فيما الدعاوى مكدسة في القضاء ولم يصدر أي حكم فيها. أما الأزمة الاقتصادية في لبنان فليست هي السبب الوحيد المتحكم بهذا الملف. والقصّة أبعد من ذلك بتحكم “المافيات” والسرقة الموصوفة.
رئيس “الهيئة الوطنية الصحية -الصحة حق وكرامة” الدكتور اسماعيل سكرية أكّد لموقع “هنا لبنان” أنّه من خلال خبرته بهذا القطاع، فإنّ صرخة وزارة الصحة كانت تعلو دائماً بفقدان أدوية السرطان. كثيرة هي حالات التّلاعب والسرقة بأشكال مختلفة والتي تمّ كشفها من دون أن يحاسب المرتكب، والدعاوى والفضائح كثيرة منذ سنوات أبرزها ما تحدّث عنه سكريّة:
– عام 2007: فضيحة إبرة Taxotere التي تُعطى لمرضى السرطان بعد أن تبيّن أنّها معبّأة بالماء، وتمّ الكشف عن ذلك بعد وفاة مريضة لدى سكرية، والدعوى لا تزال في قصر العدل. وهنا يشير سكرية إلى صعوبة اكتشاف الغش إلّا في المختبر خصوصاً أنّ محتوى هذه الإبر بالشّكل كالماء، ولو لم يشكّ بهذا الأمر لما كان أجرى الفحوصات في المختبر. كما أنّ ما يثير الشكّ أيضاً انخفاض سعره عن المتعارف عليه في السوق.

-عام 2008 طبيب كان يعطي نصف إبرة للأطفال المصابين بالسرطان ويبيع النصف الآخر بالتواطؤ مع ممرضة.

– عام 2010: تهريب أدوية أمراض سرطانية من الكرنتينا وبيعها في صيدليتين مذكورتين في الدعوى الموجودة في قصر العدل.
-عام 2011: فقدان أدوية للأمراض المستعصية بعد إعطاء أطباء لتقارير وهمية وبالتواطؤ مع موظفين تم سحب الأدوية، وقام السماسرة ببيعها في السوق السوداء.
– عام 2011: اختفاء ملفّات مرضى سرطان وأمراض مستعصية من وزارة الصحة وإتلافها قبل وصول التفتيش المركزي.
– عام 2013: قامت وزارة الصحة بتوزيع أدوية منتهية الصلاحية.
– عام 2016: شراء أدوية سرطان بقيمة 106 مليارات ليرة لبنانية وتمّ بيعها خارج لبنان.

أمام هذا المشهد أكّد سكّرية أنّ هناك مافيا داخل الوزارة محمية بغطاءات سياسية وطائفية ومذهبية، ومجرد المحاولة لمحاسبة أي موقع إداري تستنفر المرجعيات السياسية أو الطائفية أو السياسية التي يتبع لها المرتكب. ويقول سكرية: “تجربتي بهذا الموضوع غنية واصطدمت بمراجع روحية وسياسية شعاراتها كبيرة كما بمرجعيات حزبية، يغطون الفاسد لأنّه محسوب عليهم”.
وسأل سكرية: “أي ضمير هذا، شيء مرعب، أنا لا أتفاجأ من هذه الفضائح، انطلاقاً من مشهد واحد جعلني مقتنعاً بالوصول إلى ما وصلنا إليه، إذ عندما كنت نائباً لدورتين تحدّثت عن حالات مماثلة لفضائح اليوم في المجلس النيابي ولم يعلّق حينها أيّ نائب بكلمة حول هذه المواضيع، مشهد كان يرعبني وجعلني أتوقّع إلى أين سنصل. ففي المجتمعات التي تدّعي حدًّا أدنى من الديمقراطية تسقط حكومات إذا وضعت معلومات مماثلة أمام المجلس النيابي إلّا في لبنان، هذا المشهد يكفي!
ولفت سكرية إلى دعاوى كثيرة مرفوعة أمام القضاء منذ العام 1998، تمّ البت بدعوى واحدة بحكم مجلس شورى مبرم بعد أن طرحت سؤالاً عن أسعار الأدوية وأُجريت تحقيقات على مدى 6 سنوات حتى حطّت رحالها في المحكمة برئاسة القاضي خالد قباني الذي أصدر حينها قراراً مبرماً.
سكرية أكّد أنّ ما جرى سابقاً وما يجري اليوم هو عنوان السقوط الأخلاقي وسقوط الدّولة والقانون، سقوط المواقع التشريعية والتنفيذية والأحزاب وسقوط الشعارات لأنّه عندما تصل الأمور إلى حدّ الاستباحة بهذه البساطة لكلّ ما يتعلق بمريض السرطان، نكون أمام أدقّ مقياس لمصداقية الشعارات.

مواضيع مماثلة للكاتب:

حراك دبلوماسي تجاه لبنان مستفسراً ومحذّراً…

هل تقرّ موازنة 2024 والزيادات الضريبية بمرسوم حكومي؟

ﻣﻌﺮض ﻟﺒﻨﺎن اﻟﺪوﻟﻲ ﻟﻠﻜﺘﺎب 2023: رسالة صمود وتكريس لدور لبنان الثقافي