شهر رياضة الانسحاب


أخبار بارزة, خاص 29 أيلول, 2022

كتب راشد فايد لـ “هنا لبنان”:

أعلن 63 نائباً، تحت قبة مجلسهم، تخليهم، المؤقت والموقوت، عن حقهم الدستوري في انتخاب الرئيس الرابع عشر للجمهورية منذ الاستقلال، بإسقاطهم أوراقاً بيضاً، في خطوة ديموقراطية في الشكل، وتعسف في استعمال الحق، على مستوى الأداء الدستوري. فانتخاب الرئيس العتيد، لا سيما هذه المرة، ليس أمراً عادياً، فهو الخطوة الأولى المأمولة في سلسلة خطوات يفترض أن تعيد الدستور إلى سموّه فوق المماحكات السياسية، والتراشقات الإنكارية، لأنه ملح الدولة، وميزان الصواب والخطأ، أو هكذا يفترض في بلاد العالم.

لكن حرف الدستور عن ميزانه، وكذا القوانين، ليس بجديد على الممارسات السياسية اللبنانية، وما افتعال الإشتباكات السياسية مع القضاء، وتجزئته بين أصحاب المصالح السياسية والشعبوية، في قضية تفجير المرفأ تحديداً، إلا نموذجاً فجاً للإستهتار بوعي اللبنانيين الحقائق، وأولها أن “الإختراعات” المسماة اجتهادات، والفذلكات المغلفة بإيحاءات قانونية مبتدعة، ليست في خدمة الحقيقة التي يزعم الساسة البحث عنها من دون فانوس ديوجين، بل هي لإماتة التحقيق وحماية الفاعلين، ولا داعي للتذكير بإعلان الأميركيين، والإسرائيليين، أن التفجير عملية إسرائيلية ناجحة، واتهام “حزب الله”، المتزامن، إسرائيل بالعملية، ثم صمت الثلاثة، وكأن لهم مصلحة واحدة في تمييع الأمر لأن كشفه سيوصل إلى إدانتهم معاً، إذ، ربما منهم من خزّن وورّد ومنهم من فجر، ولبنان واللبنانيون من دفع ويدفع ثمن جريمة هي ضد الإنسانية.

حاول رئيس جمهورية الإستقلال الأولى الشيخ بشارة الخوري أن يمدد عهده فأسقط في الشارع، واتهمت المعارضة خليفته كميل شمعون بأنه يسعى إلى التمديد فكانت انتفاضة 1958 التي دحضت الفكرة، ثم ساد احترام الدستور والميثاق الوطني إلى حين فرض الوصاية السورية على لبنان، في ظل دستور الطائف، فكان أن تحول مضغة لدى القوة المهيمنة، توج الاجتهاد في تحريفه بالتمديد للرئيس الياس الهراوي، ثم التمديد للرئيس إميل لحود، وفي المرتين تحت عنوان الرؤية الاستراتيجية لنظام الأسد، أباً وإبناً.

لكن قمة التحريف في تطبيق الدستور تُحفظ للحزب و”أمل” و”التيار الوطني الحر”. فالثلاثي تظلل بترهيب سلاح الأول لمنع النصاب في جلسات انتخاب الرئيس في 2016 برغم 45 دعوة لانعقاد المجلس، مستنداً إلى “تمغيط” الدستور و”اجتهاد” غب الطلب في تحديد النصاب، لإيصال ميشال عون إلى بعبدا.

لا تنبئ مجريات الجلسة الأولى بقرب حسم مصير الرئاسة، على الأقل قبل الأسبوع الأخير من عهد الرئيس عون، وسيزداد الضغط الدولي على الجميع للذهاب إلى الإقتراع، فيما يمسك رئيس مجلس النواب نبيه بري بالدفة بعد “إجتهاده” بأن النصاب، في المرات التي تلي الدورة الأولى يستمر بالثلثين علمًا أن الاقتراع يصح بالأكثرية المطلقة في المرات التالية، ما يعني أن النصاب سيُفقد فور الانعقاد، إذا لم يقع التوافق بين القوى المتواجهة. فالديموقراطية التي تبيح التنافس وفوز صاحب الأصوات الراجحة ليست شأنا لبنانياً، وكل طرف سيلجأ إلى ما هو متاح له من قدرة عددية في الجلسة للإتيان بمرشحه، أو الحؤول دون وصول المرشح الآخر، وسيكون الإنسحاب من نصابها رياضة نيابية، إلّا إذا أدى الإستئناس، أي التشاور مع النواب (وإقليمياً ودولياً)، كما كان يقول رئيس مجلس النواب الأسبق المرحوم كامل الأسعد، إلى تكوين أغلبية، حول مرشح بذاته، يعطل العناد المتبادل، والطريق إلى ذلك لن يكون سوى بإقناع الحزب الذي توصل إلى التفاهم مع إسرائيل على ما يسميه “قواعد الاشتباك” أن يتوصل، في الداخل إلى “قواعد تعايش” تنظم الخلاف الداخلي في إطار الدستور والقوانين، وليس على حسابها. فالحزب لا يقبل النقاش في سلاحه في الداخل، ولا معارضوه يسلمون له بحق الهيمنة على الدولة، وإن زعم التبرؤ من ذلك، و”أجبر” اللبنانيين على وصف سلاحه في الداخل بأنه سلاح المقاومة، لاستدراج قدسية ليست له برغم وضوح دوره في الداخل من قبل غزوة بيروت والجبل إلى اليوم، وهو ما لا يطمئن إلى توبة عن العودة إليه، ولو أن الانتخابات بينت أن الحزب لم يعد يُرهِب كما كان حاله في 2008، بدليل التجرؤ عليه شعبيّا وسياسياً وإعلامياً، وظروف اليوم ليست نسخة عن الأمس.

الأزمة العميقة أن الحزب يتقدم إلى الخلف داخلياً على خطين، أولهما “البيئة الحاضنة” التي تتوق إلى حياة طبيعية لا تستدعي شروخاً عميقة في “قواعد التعايش” مع الآخرين، والثاني إجماع اللبنانيين على استحالة الاستمرار تحت رحمة سلاح تديره طهران.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us