كاتب، ممثل، جمهور… شيعة، شيعة، شيعة


أخبار بارزة, خاص 13 تشرين الأول, 2022

كتب جوزف طوق لـ”هنا لبنان”:

من بعد ملعب الراية في الضاحية، هذه أول مرّة أرى فيها هذا العدد الكبير من الشيعة مجتمعين في مكان واحد، وأين؟ في الطيّونة… هذه المعطيات القليلة، لوحدها، كانت كفيلة أن تشعرني بالتوتر والارتباك، وما كانت تبشّر بشيء غير إشكال، أو تعارك، أو اشتباك مسلّح، فكلّ ما فيها مادة دسمة لتقرير تلفزيوني أو تغريدات طائفية.

لكن بعد النزول إلى الطابق السفلي من مسرح “دوار الشمس”، توزّع هؤلاء الشيعة على الكراسي الحمراء لمشاهدة إبن طائفتهم عباس جعفر منفرداً في عمله المسرحي الأول “هيكالو” من تأليف شيعي آخر، وهو الكاتب والمخرج يحيى جابر.

كاتب، ممثل، جمهور… شيعة، شيعة، شيعة… الأمر لا يبشّر بالخير. انطفأت الأنوار، دوّى صوت في الأجواء، ودخل جعفر يعزف على طبلٍ ويغنّي مواويل تراثية، وابتدأت رحلة التعرّف إلى عباس جعفر في شخصية عباس جعفر في عمل مسرحي امتدّ قرابة طول الطريق بين بيروت وبعلبك، أي نحو الساعتين.

تحوّل الحذر إلى ارتياح، والتوتر إلى ضحك متواصل، وعلّقنا أحكامنا المسبقة وعنصريتنا اللبنانية الأصيلة، فعلقنا في كراسينا مثبتين بمسامير نصّ يحيى جابر تدقّها شخصيات عباس جعفر التي يلعبها بسلاسة وإقناع. يتنقّل جعفر بين شخصيات متنوّعة من بيئته البعلبكية، يربط بها النصّ، يشدّنا إليه، يُغرقنا في تفاصيل عائلية وعشائرية، يُدخلنا إلى حرمة بيته، ويفضح كلّ شيء… فحتى ثديا جدته المترهلان لم يسلما من مشهد كوميدي يلبس حجاب السخرية اللاذعة.

وبعد أن دخلنا بمخيلتنا إلى المحظور شرعاً، بدأت الفضائح تتوالى مع شخصيات تتمرّد على الصورة المعتمدة عن الطائفة، لتأخذنا أكثر وأكثر إلى عمق مجتمع نجهل الكثير من أسراره وتفاصيله، فتحولت كراسينا الحمراء إلى أثاث منازل زرناها في حي الشراونة ودار الواسعة وإلى جانب قلعة بعلبك. أصبحنا من أهل البيت، نتعرّف أكثر على هؤلاء المُغرَّبين عنّا بصور نمطية وأحكام معلّبة. نستمع إلى الشخصيات الراكضة على المسرح، ونقول في أنفسنا، ليسوا غرباء، يشبهوننا حقاً… يذّكرنا عباس بقضايا اجتماعية وسياسية وثقافية. يسلّط الضوء على قضية آلاف المسجونين غير المحكومين، زواج القاصرات، تسلّط بعض رجال الدين، الحرمان في قرى البقاع، غياب الإنماء والتعليم والاستشفاء، استغلال المشاكل الفردية لأهداف طائفية، احتكار قرار الطائفة، وغيرها الكثير من مجاهل هذه المنطقة الملعونة بالسلاح والمخدرات.

مع كل تفصيل من المسرحية نافذة على حقيقة مغيّبة، ومع كل مشهد وشخصية جديدة يعلو التصفيق وتصدح الضحكات… نتعرّف قليلاً على القدرات التمثيلية لعباس الذي يعرّف عن نفسه بأنه الممثل الوحيد من آل جعفر، ونلتفت إلى الخلف لنكتشف كل هؤلاء الشيعة المستمتعين بالمشاهد الكاريكاتورية عن بيئتهم وطائفتهم، وهم أيضاً نتعرّف عليهم أكثر، نتشارك معهم الانفعالات، فيتزامن تصفيقنا وبياض أسناننا، قبل أن تحوّلنا قدسية المسرح إلى جمهور واحد، يهتف بالتصفيق لـ “العمل – السيّد”!

كما ضحكنا، بكينا… وكما صفّقنا، تأثرنا. ولكن خرجنا من المسرح ليس كما دخلناه، لأنه كان واضحاً على وجوه الجميع أننا سننام الليلة أقل غباءً، وأقل جهلاً، وأقل طائفية لأننا تعلّمنا أشياء جديدة. اكتشفنا عباس جعفر الممثل القادر على لعب أدوار مسرحية، وتأكّدنا أكثر من عبقرية الكاتب يحيى جابر القادر على تفكيك تاريخ وجغرافيا المناطق والطوائف والمجتمعات اللبنانية، لينصّها بتفاصيل كوميدية وتراجيدية. ولمسنا حاجتنا الملحّة إلى مزيد من الأعمال التي تحرّك العقل فينا وليس الغرائز.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us

Skip to toolbar