الهزّة الأرضية تعيد قضية الأبنية المتصدّعة إلى الواجهة: تقاذف مسؤوليات، إخلاء مبانٍ وخطّة بديلة مفقودة


أخبار بارزة, خاص 25 شباط, 2023

قضية الأبنية المتصدّعة عادت إلى الواجهة بعد أن أثار الزلزال الذي ضرب تركيا وشمال سوريا الخوف في نفوس سكان الأبنية القديمة في لبنان.


كتبت ميرنا الشدياق لـ “هنا لبنان”:

هو السيناريو نفسه يتكرّر عند كل كارثة: ضحايا يسقطون، أهالٍ مفجوعون، ومسؤولون يستنكرون ويتّخذون قرارات غير قابلة للتّنفيذ ويعودون إلى سباتهم العميق… وهكذا دواليك.
والكارثة اليوم تتعلق بسقوف المباني التي من المفترض أن تأوي اللبنانيين وتحميهم، ولكن بدلاً من ذلك يعيشون تحتها خائفين لأنّها قد تنهار على رؤوسهم.
فقضية الأبنية المتصدّعة عادت إلى الواجهة بعد أن أثار الزلزال الذي ضرب تركيا وشمال سوريا في السادس من شباط الجاري، الخوف في نفوس سكان الأبنية القديمة في لبنان، بعدما وصلت ترددات الزلزال إلى مدن رئيسية كالعاصمة بيروت وطرابلس، حيث تملأ التصدعات جدران وأسقف العديد من المباني.
من منّا لا يتذكّر سقوط مبنى الفوّال في منطقة الميناء في طرابلس في أواخر العام 2019، من منّا لا يتذكر انهيار مبنى حي فسّوح في الأشرفية عام 2012 وآليات التحرك البدائية والمربكة بعد هذه الكارثة؟ من منّا لم يسأل ماذا لو وقع زلزال في لبنان فهل سيُبقي حجراً على حجر؟

بعد حالة الهلع التي سيطرت على قاطني الأبنية المتصدعة أو القديمة إثر الزلزال والهزات الارتدادية، الدولة تحرّكت اليوم وطُلب من البلديات واتحادات البلديات والقائمقامين إجراء مسح شامل للأبنية المتصدعة وغير الصالحة للسكن والانجرافات الحاصلة على الطرقات، على أن يتمّ الاستعانة بنقابتي المهندسين في بيروت وطرابلس، والعمل على تدعيم أو ترميم الأبنية المتصدعة من قبل أصحابها وإذا تعذّر ذلك فمن قبل البلديات المعنية. كما تمّ رفع تقرير مفصل بباقي الأبنية المتضررة والانجرافات والتي يتعذر تنفيذ الإصلاحات فيها لأي سبب آخر مع بيان التكاليف التقديرية لتدعيمها أو ترميمها على أن يودع مباشرة الهيئة العليا للإغاثة وذلك بالسرعة الممكنة.
الأكيد أن لا أرقام رسمية لعدد الأبنية المتصدّعة إلّا أنّها تُقدّر بالآلاف، فيما المسح اليوم دونه عقبات، والمعضلة الأساسية في كلفة الترميم وتقاذف المسؤوليات سمة المرحلة.

وفي معلومات لموقع “هنا لبنان” فإنّ نقابة المهندسين تتلقى عدداً كبيراً منَ التَّبْليغاتِ لِلْكشفِ على الأبنية تلك التي تعرضت لتصدعات وتشققات بسبب الزلزال أو أبنية أراد قاطنوها التأكد من مدى مقاومتها للزلازل. إلّا أنّه وبحسب المعلومات أنّ مهمّة الكشف على كل الأبنية القديمة مسألة صعبة جداً قد تستغرق سنوات، إضافة إلى تقاذف المسؤوليات بين الجهات المعنية فيما هناك محاولة لإلقاء المسؤولية كاملة على البلديات ونقابة المهندسين في تولي هذه المسألة، في حين إنّ البلديات لا تملك الإمكانات سواء البشرية أو المادية أمّا النّقابة فلا يجب أن يتجاوز رأيها الرأي التقني.
وقد علم موقع “هنا لبنان” أنّ نقابة المهندسين تميل إلى اتّخاذ خطوة على هذا الصّعيد بإنشاء خط ساخن وتشكيل مجموعات تدخّل، وعند ورود أيّ اتّصال يطلب الكشف على أيّ مبنى ترسل النقابة فريقاً للكشف وتصدر تقريراً على ألّا يستعمل هذا التقرير من أي جهة كانت رسمية أو بلدية للاستناد إليه من أجل طلب إخلاء من دون إيجاد حلول. وهذا ما يحصل اليوم مثلاً في طرابلس حيث تمّ إخلاء مبنى من دون تأمين مساكن بديلة.

طرابلس: أبنية متصدّعة وإهمال
وفي هذا الإطار أكّد عضو مجلس بلدية طرابلس رئيس لجنة الآثار والتراث البروفسور خالد تدمري في حديث لموقع “هنا لبنان” أنّ بلدية طرابلس توجّه إنذارات بشكل دائم لسكان الأبنية المتصدّعة ويتمّ إخلاء بعضها، ولكن ما هو البديل أمام السكان الّذين يخلون منازلهم؟ هنا تكمن المشكلة إذ أنّ سلطات الدولة لا تطرح أيّ خطّة بديلة. فكل ما قامت به الحكومة هو الطلب من البلديات برفع تقارير حول الأبنية المتصدعة لوزارة الدّاخلية التي بدورها ترفعها إلى رئاسة الوزراء لتحدد الخطوة التالية بعد أن تصلها كلّ التقارير من الأراضي اللبنانية. وهذا عمليًّا يعتبر تخطيطاً بطيئاً لأنّ عملية الكشف تتطلّب وقتاً.
ففي طرابلس مثلاً ما يزيد عن نصف مليون نسمة وهناك عدد هائل من الأبنية. أمّا القرار بحدّ ذاته أن يتِمَّ التبليغ خلال 72 ساعة هو ضرب من الخيال. فمن يستطيع إنجاز كشف في هذه المهلة مع وجود عدد ضئيل من المهندسين في البلدية.
بلدية طرابلس بحسب تدمري كانت قد تلقّت قبل وقوع الزلزال في تركيا وسوريا 400 شكوى وتمّ توجيه إنذارات إلى 65 مبنى بضرورة الإخلاء. اليوم ارتفع عدد الشكاوى إلى 700 وبطبيعة الحال عند المسح من قبل البلدية سيزداد العدد.
فيما ينحصر دور البلدية بتوجيه الإنذار إلى المالكين بضرورة تصليح الأبنية وإخلائها إلى حين إزالة الخطر عن السلامة العامة وعن السكان. إلّا أنّ مالكي هذه الأبنية ليست لديهم القدرات المادية بسبب تدني قيمة الأجور والإيجارات القديمة ومعظم المستأجرين من ذوي الدخل المحدود.
تدمري دعا إلى انتظار ما ستقوم به الدولة على هذا الصعيد، فالبلدية في القانون لا ترمم الأملاك الخاصة مجاناً، ويتحدثون اليوم عن انه سيتم تكليف الهيئة العليا للإغاثة ولكن السؤال المطروح: إلى أي مدى تستطيع هذه الهيئة القيام بهذه المهمة التي تستلزم لاحقاً متعهدين وتلزيمات ما يتطلب تأمين الميزانية اللازمة وكم ستستغرق الخطة الزمنية؟
فمن جهة يجب تأمين المبالغ لإخلاء المبنى وتأمين الإيواء المؤقت، ومن جهة أخرى تأمين تكاليف صيانة المبنى. كل هذه الأمور مبهمة: لا خطة واضحة، الجهة التي سيتم تكليفها لإدارة الأزمة بالكامل لم يتم تحديدها، ولا وجود لآلية على أساسها سيتم العمل. علماً أنّنا نسمع منذ سنوات عن هيئة إدارة الأزمات في لبنان مطروحة على مجلس النواب ولم يتم إقرارها حتى اليوم.
تدمري شدّدَ على أنّ المشكلة ليست محصورة بمبنى أو اثنين، هناك ما يزيد عن 1000 مبنى بين طرابلس والميناء والبداوي، وعلى صعيد لبنان نتحدث عن عشرات الآلاف من الأبنية خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار أحزمة البؤس التي تلف المدن الكبرى ككلّ مداخل بيروت وكذلك مداخل طرابلس حيث المخالفات في البناء والرداءة في الإنشاء. وقد شهدت هذه الأبنية منذ منتصف القرن الماضي حتى اليوم على حروب وكوارث ولم تشهد أيّ عملية ترميم أو تصليح وكان هناك إهمال واضح من الدولة تجاه هذه المنطقة بعد الحرب اللبنانية.
أما ما هو الحل؟ فهو بحسب تدمري بإخلاء المباني المتصدعة بشكل سريع على أن تكون هناك خطة واضحة للدولة لإيواء السكان أو إعطاؤهم بدل إيجار أو تبنّي مساكن مؤقتة في أراضٍ خالية.
وشدد تدمري على وجوب امتثال السكان لإنذارات الإخلاء حفاظاً على سلامتهم بالدّرجة الأولى وعليهم رفع الصوت للمطالبة بحقّهم في تأمين مأوى بديل إلى حين تدعيم الأبنية المتصدعة.

أبنية غير مقاومة للزلازل
وعن نسبة الأبنية المقاومة للزلازل في لبنان أشار الأخصائي في هندسة المنشآت المقاومة للزلازل ومستشار نقيب المهندسين للدراسات الإنشائية البروفسور يحيى تمساح لموقع “هنا لبنان” أنّ هناك أبنية في لبنان غير مجهّزة بأنظمة إنشائية مقاومة للزّلازل وهي تُشكّل معظم الأبنية القديمة خصوصاً ما قبل عام 2013 عندما صدرت مراسيم السلامة العامة التي تلزم تصميم أبنية مقاومة للزلازل. هذه الأبنية غير المقاومة للزلازل تشكل ما يفوق عن 80% من مجمل عدد المباني في لبنان.
وإذ لفت تمساح إلى أنّ التصدّعات التي حصلت في بعض المباني ناتجة عن هزات بشدة متوسطة إلى خفيفة. أكّد وجوب أن يتمّ الكشف على التصدعات من قبل متخصص إنشائي للتأكد من وجود هذه التشققات في العناصر الإنشائية الأساسية في المبنى أو في العناصر غير الإنشائية مثل حيطان التقطيع بشكل خاص. الخطورة بوجودها في التشققات في الأعمدة، في السقوف وفي حيطان الباطون المسلح.
وشدّد تمساح أنّ هذا الموضوع لا ينحصر بلبنان فقط، بل يشابه واقع المباني في تركيا حيث بحسب القوانين يجب مراعاة معايير الإنشاء المقاومة للزلازل. إلّا أنّه وبحسب ما لاحظناه عبر الشاشة انهيار مبانٍ وصمود مبان مجاورة لها، ممّا يدلّ على أنّ بعض المباني لم تراعَ فيها معايير تصميم إنشائية مقاومة للزلازل فيما تمّ ذلك في المباني الأخرى”.
وجزم تمساح أنّ مبانٍ عديدة تم بناؤها قبل عام 2013 لم تراعِ هذه المعايير في لبنان.
وتحدث عن عشرات أنظمة الإنشاء التقليدية التي تجعل من أيّ مبنى مقاوماً للزلازل، إلّا أنّ المسألة هي في التكلفة فقط.

مسؤولية المالك أم الدولة؟
يحمّل قانون الموجبات والعقود وقانون البلديات وقانون البناء مالك المبنى مسؤولية الترميم، ولكن أي مسؤولية تُلقى على مالك الأبنية المؤجرة القديمة الذي يتقاضى بدل إيجار رمزي.
نقيب المالكين باتريك رزق الله أكّد في حديث لموقع “هنا لبنان” أنّ هذه المباني بنيت في الخمسينات والستينات من القرن الماضي وبالتالي بحسب نقابة المهندسين فإنّ صلاحية الباطون 70 سنة وقد تعرضت هذه المباني لتصدعات خلال النكبات المتتالية من حروب ثم انفجار 4 آب.
ولم تتمّ صيانة هذه المباني منذ 40 سنة، لأنّ المالك منذ عام 1983 لا يتقاضى بدلات إيجار تمكّنه من الترميم.
وأعطى رزق الله هنا مثالاً عن أحد المالكين الذي لا يتجاوز بدل الإيجارات التي يتقاضاها في السنة 7 ملايين ليرة، وقد أتى بمهندس بعد حصول الهزة ليكشف على المبنى فتبيّن أنّ تكلفة الترميم 27 ألف دولار أي أنّه يحتاج إلى 270 سنة ليسترد كلفة الترميم فقط. وما يمكن استنتاجه أنّ معظم مالكي المباني القديمة غير قادرين على الترميم.
وشدد رزق الله على أنّ القانون يحمل المالك المسؤولية في ظروف طبيعية ولكن ليس في ظروف لا يتقاضى فيها بدلات إيجار.
ولأنّ البلديات تمر بظروف صعبة وهي غير قادرة على المساعدة في الترميم، يبقى الحلّ بحسب رزق الله بإخلاء هذه المباني المتصدّعة بشكل فوري وبتحرير الإيجارات فوراً لتمكين المالك من الترميم. أمّا الحلول الأخرى فهي فولكلورية ولا قدرة للدولة أن تجري مسحاً و”كلّنا يعلم قدرة الدولة، الدولة مفلسة تطلب المساعدة من مؤسسات خاصة ونقابات”.
رزق الله طالب باسم نقابة المالكين بإقرار اقتراح القانون في مجلس النواب المتعلق برفع المسؤولية عن المالكين، إذ كيف “تحملني المسؤولية وقد حرمتني من بدلات الإيجار”.
ودعا إلى “تحرير الإيجارات غير السكنية بشكل فوري ليتمكن المالك من تقاضي بدلات إيجار للمباشرة بأعمال الترميم بالحد الأدنى حماية لأرواح المالكين والمستأجرين”.
وذكر رزق الله أنّ “النقابة تطلق هذه الصرخة منذ 10 سنوات محذّرةً من انهيار المباني المتصدعة، وعلى الدولة ولمرة واحدة، أن تتحمّل المسؤولية إذ أنّ إصدار البيانات بتحمل المسؤولية لم يعد كافياً نريد أفعالاً” …
تتكرر الكوارث في لبنان، ولكنّ أحداً لم يتعلّم الدرس…

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us

Skip to toolbar