رياض سلامة.. “كبش الفداء” المثالي

كتبت Natasha Metni Torbey لـ“Ici Beyrouth”:

في إطار التحقيقات الأوروبية التي تجريها وفود قضائية في خمس دول ضد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، تواصلت الجمعة جلسات الاستماع لإفادة الحاكم بتهمة “الاختلاس المالي”. ويتعرض سلامة، على النطاق اللبناني والدولي، منذ سنوات عدة لحملة ضغط أطلقها الفريق العوني.

وأصبح سلامة، منذ اللحظة التي تحوّل فيها لهدف للاستجواب في لبنان وفي عدد من الدول الأوروبية (بما في ذلك ألمانيا وفرنسا وليختنشتاين ولوكسمبورغ وسويسرا)، كبش فداء لنظام سياسي اقتصادي توجّب على سلامة نفسه توفير غطاء له على مدى 30 عامًا.. وهو النظام عينه الذي جدّد ولاية الحاكم.

فبالعودة إلى العام 2017، مددت الحكومة اللبنانية بقيادة رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري، وبالتشاور مع رئيس الجمهورية السابق ميشال عون، ولاية الحاكم الذي يرأس مصرف لبنان منذ العام 1993، لست سنوات إضافية. ومن سخرية القدر أن عون هو الذي يخوض اليوم مع معسكره السياسي، معركة شرسة ضد سلامة.. هي معركة تندرج في سياق سياسي بحت، سرعان ما يوضع فيه القضاء والمجتمع في خدمة الضرورات الاستراتيجية للتيار الوطني الحر.

وبهدف إتمام مؤامرته بشكل جيد، قام التيار البرتقالي بتوسيع ساحة المعركة لأن مصلحته تقتضي بشن هجوم مضاد للتنصل من مسؤولياته، بعد أن فشل في إصلاح قطاع الكهرباء الذي تولى إدارته لعدة سنوات، وبعد أن قاد البلاد إلى الهاوية. هكذا، اعتبر التيار الوطني الحر بلا شك أن سلامة أفضل كبش فداء يعرض بصورة “الضعيف” و “الخائف من التدقيق المالي في مصرف لبنان”، كما يزعم التيار منذ فترة طويلة. وحمّل التيار سلامة مسؤولية الأزمة في إطار حملته التي أسماها “مكافحة الفساد”.

دور حزب الله

ليس المعسكر العوني الفريق الوحيد الذي يرغب بوضع حدّ لولاية الحاكم. فهناك فريق آخر نجح في تشكيل دويلته داخل الدولة، وهو يتنافس مع سلامة على لقب القائد الحقيقي للبنان: حزب الله. ويسيطر الحزب بفضل ميليشياته وداعميه وشركائه السياسيين وبفضل تمويل إيران ودعم سوريا ومنظماتها ومؤسساتها الاقتصادية والاجتماعية، على البلاد وعلى سياستها وقضائها إلى جانب حلفائه. وفي المقلب الآخر، يُنظر إلى سلامة على أنه الشخص الذي يمسك بزمام الاقتصاد اللبناني، ويؤثر على ميزانية الدولة ويعرف الأسرار المالية للنخبة السياسية اللبنانية. وبالتالي، يمكن فهم حماس التيار الوطني الحر وحزب الله واستعجالهما لخوض معركة شرسة وشعبوية ضد الشخص الذي يمسك بمفاتيح سقوطهما.

ولكن لخوض هذه المعركة، كان من الضروري تصميم مسرحية محبوكة جيداً. وهكذا، تحولت كل الأنظار إلى قصر العدل المنهك بفعل بالتدخلات السياسية. ثم ظهر تدريجياً اسم المحامية السابقة، التي أصبحت النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضية غادة عون والتي لا تخفى انتماءاتها السياسية على أحد. وسرعان ما اتّضح أن عون هي الأداة القضائية التي يلوّح التيار الوطني الحر من خلالها بمشروع “مكافحة الفساد” من خلال هجمات مضاعفة ضد الحاكم.

وإلى جانب مجموعة من النشطاء الذين يشنون حملة غامضة ضد القطاع المصرفي، لم تتردّد عون باستدعاء سلامة في كانون الثاني 2022، لجلسة استجواب وبمنعه من السفر. وأتت هذه الخطوة إثر شكوى قدمها عدد من المحامين المنتمين للمجموعة المشبوهة بشكل خاص والتي تحمل اسم “الشعب يريد إصلاح النظام”. وتتهم هذه المجموعة حاكم مصرف لبنان بـ “الاختلاس والإثراء غير المشروع وتبييض الأموال”.

ولكن لا يبدو أن القاضية تقدّر عواقب النشاط الشعبوي الذي تقوده، خصوصاً وأنها أساءت استخدام السلطة لمرات عدة، لدرجة كلفتها بعض التأنيب من رئيسها النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات. ومع ذلك، تجاهلت عون التحذيرات ونجحت بالتفلت من العقاب.

تدخل وديع عقل

وإلى جانب غادة عون، برز اسم محامٍ مقرب من التيار العوني بتصريحاته التي استهدفت الحاكم عبر مواقع التواصل الاجتماعي. ليس هذا المحامي سوى وديع عقل الذي يرأس هيئة “مكافحة الفساد” داخل التيار البرتقالي، والذي كثف منذ العام 2019 جهوده في لبنان والخارج لتبييض صورة فريقه. ويعرف عقل بمشاركته في الاجتماعات الدولية الكبرى في الغالب إلى جانب رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، حيث يستبق صدور الأحكام القضائية ضد سلامة.

وحين لا تتوافق الأحكام الصادرة مع توقعاته، يهاجم القضاة الذين يصدرونها. هذا ما حصل على سبيل المثال في ليختنشتاين، حيث قدم عقل إلى جانب عون شكوى ضد الحاكم ووجه مذكرات إلى السلطات القضائية في دول أوروبية مختلفة حول المخالفة للإجراءات القضائية المنصوص عليها في القانون، مبرهناً عن استغلال قضائي وإعلامي لم يشهد له مثيل من قبل.

استغلال الطابع الدولي لجعل العملية ذات مصداقية

وفي ظل استهدافه بالعديد من الشكاوى في لوكسمبورغ وفرنسا والمملكة المتحدة وسويسرا، أصبح حاكم مصرف لبنان، أكثر من أي وقت مضى، في قلب المناورات السياسية التي تخدم بقاء الطبقة السياسية اللبنانية الطامحة للحفاظ على سلطتها. وتترجم هذه المناورات في الخارج، بـ “تبييض” الإجراءات القانونية التي يتخذها هناك أعضاء مقربون من التيار الوطني الحر.

في سويسرا مثلاً، وجهت أصابع الاتهام لسلامة من قبل جمعية Accountability Now المعروفة بقربها من التيار الوطني الحر. وفي هذه القضية، حجب اسما عضوين رئيسيين في الجمعية، يشكل حيادهما موضع شك: المحامية اللبنانية زينة واكيم والمدير التنفيذي في مجموعة “دلتا اويل” الاستثمارية المهندس وليد سنو. أما واكيم فهي المسؤولة عن مؤسسة “انتربول” التي يرأسها وزير الداخلية اللبناني السابق إلياس المر، والتي وضعت في العام 2020 مسؤولية الأزمة الاقتصادية اللبنانية على عاتق حاكم مصرف لبنان. وأما سنو، ونظراً للمنصب الذي يشغله في عالم الموارد النفطية، تشكّ بعض المصادر بأن له تحالفات مع التيار الوطني الحر الذي يريد وضع اليد على إمكانات الغاز في لبنان.

وبالتوازي مع الجمعية السويسرية، تحركت شركة Guernica 37 التي تضم حقوقيين ناشطين في بريطانيا. وفي تموز / يوليو 2020، وقبل وقت قصير من بدء الإجراءات القانونية ضد سلامة في سويسرا، وقّع رجل الأعمال اللبناني المقيم في الولايات المتحدة، نديم متى، بالاشتراك مع إليان سركيس، رئيسة حركة “مواطنون لبنانيون حول العالم” (MCLM)، رسالة موجهة إلى صندوق النقد الدولي للحثّ على مكافحة الفساد في لبنان.

ولفهم تحامل هذه الأطراف ضد الحاكم، يمكن العودة للمقال الذي نُشر في جريدة “لوموند” (Le Monde) الفرنسية، في 5 نيسان 2021، والذي دعا في عنوانه الرئيس الفرنسي على تجميد “الأصول المشبوهة لمسؤولين لبنانيين في فرنسا”. وحملت الرسالة توقيع مئة شخص بمن فيهم سركيس وهي لا تستهدف سوى حاكم مصرف لبنان، أما الجناة الآخرون فورد ذكرهم بعبارات غامضة.

وإلى جانب Accountability Now و Guernica 37 ، تعد “شيربا” (Sherpa) واحدة من تلك الجمعيات التي تحوم شكوك حول علاقاتها بالتيار الوطني الحر وتحديداً في ما يتعلق بالنطاق القضائي للإجراءات ضد الحاكم. ويقف خلف “شيربا”، المحامي الفرنسي الغامض للغاية ويليام بوردون، المعروف بملفه الحرج “للمكاسب غير المشروعة” في الغابون والكونغو وغينيا الاستوائية. وحرك بوردون الشكاوى المرفوعة ضد رياض سلامة من خلال جمعيته، بالتعاون مع “تجمع ضحايا الممارسات الاحتيالية والإجرامية في لبنان” والمؤسسة السويسرية Accountability Now.

وتجدر الإشارة إلى أن بوردون يتمتع بعلاقات وثيقة مع أعضاء التيار الوطني الحر. وبالعودة إلى نيسان 2022، عُقدت ندوة في ملحق لمجلس الشيوخ الفرنسي، حول سبل “تعويض ضحايا الفساد والنزاع المسلح”. ومن بين الحضور، الأداة القضائية لرئاسة الجمهورية اللبنانية السابقة، غادة عون، ورجل أعمال لبناني ثري غامض وذائع الصيت، وأحد مرشحي الانتخابات النيابية اللبنانية بدورتها السابقة، عمر حرفوش، والسيناتور الفرنسي ممثلة قسم أورني وعضو مجلس الشيوخ الفرنسي، ناتالي غوليه، التي ورد اسمها في عدة ملفات تمويل سياسي حساسة (قطر وأذربيجان)؛ وأخيراً المحامي ويليام بوردون. فهل هي مجرد صدفة؟

تحمل حملة التشهير ضد حاكم مصرف لبنان، وهي أبعد ما يكون عن تحديد المسؤوليات التي تسببت بأزمة البلاد، دلالات مهمة ولأسباب وجيهة، تفضحها الأسئلة التالية: أليس الانهيار الحالي نتيجة مسيرة طويلة من المحسوبيات ومن الفساد المتشعب؟ مسيرة تولى حزب الله إطلاقها وتحفيزها وسعى للحفاظ عليها بمساعدة حلفائه المقربين في الحكومات والبرلمانات المتعاقبة على الساحة اللبنانية؟ وألا يمثل هؤلاء كلهم السلطة نفسها التي جددت ولاية الحاكم؟

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع ذات صلة :

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us

Skip to toolbar