ما الجدوى من التفاوض مع الحزب؟

كتب يوسف معوّض لـ”Ici Beyrouth”:

لقد رأى البعض في إلغاء أتاتورك للخلافة العثمانية في العام 1924، إعلاناً رسمياً لفصل “المقدس” عن الحياة السياسية في أرض الإسلام. فمن كان ليتخيل في ذلك الوقت، تجدد السطوة الدينية اليوم في لبنان؟

لا شك أن لكل شخص في هذه الدنيا فلسفته الخاصة للحقيقة والتي تصيغ أسئلته وشكوكه وقراراته. ولا بأس بذلك لأن الحقيقة الفردية تبقى محصورة في إطار الحرية الشخصية، فكراً وقولاً وفعلاً. ولكن الخطر يكمن في المجموعات التي تعتقد أنها تمتلك مفاتيح الحق وتقرر استبعاد الآخرين! ففي هذه الحالة، يخيل لهذه المجموعة أنها تجسد وحدها الحقيقة الكاملة، وبالتالي لا تسعى لأي تسوية مع المجموعات الأخرى، على غرار ما يحدث في إطار أي سياسة سليمة. لا بل على العكس تماماً، تحاول فرض قناعاتها التي تعتبرها مقدسة وسلطتها غير المتنازع عليها على الكيانات الأخرى.
ومن هذا المنطلق، لا يعدو النقاش تابعي ولاية الفقيه، والذي يدعوا إليه من نصبوا أنفسهم أصحاب المساعي الحميدة، كونه أكثر من جدال عقيم. لا مانع بالطبع من خوض لعبة التفاوض مع حزب الله، ولكن لا بد من أن نعي أنها لن تفضي للكثير ولن تؤدي إلا لإضاعة المزيد من الوقت أو لتأجيل المواعيد المصيرية. لكن في النهاية، لن يلوح أي شيء في الأفق. ألم يكن الحال كذلك على الدوام؟! والسبب بسيط للغاية، ويمكن تفسيره بفلسفة بوردون عن الوحي والإتصال بالمطلق كما سنرى لاحقاً، وهذا يعني الفراغ بالنسبة لأولئك خارج دائرة المختارين! وبالتالي، لا طائل من الغوص في الأوهام. وحدها “معركة مريبة” كفيلة للفصل بين المعسكرين المتعارضين!

راسل والأيديولوجية السخية
وبالمقابل، هناك تلك النظرية التي تقول بقدرتنا على بذل جهد وتضحيات أقل، والاستسلام للمطالب الإيرانية وتسليمها مقاليد السلطة حيث أنها قادرة، حسب بعض العقول التي تدعي المثالية، على استثمارها بأفضل شكل ممكن. ينضم الضالون هؤلاء، في سوء تقدير للنوايا، لبرتراند راسل الذي اعتقد في العام 1937، بعدم ضرورة الدفاع عن الجزر البريطانية في حال تعرضها لهجوم من جيش هتلر. كان راسل يؤمن أنه من الحكمة استقبال الغزاة كضيوف ودعوتهم حتى لتناول الشاي عند الساعة الرابعة عصراً! كان يؤمن بقدرة الإنكليز على غزو النازيين من خلال الأسلوب الهادئ للحياة الريفية، ودفعهم للتخلي سريعاً عن ميولهم العدوانية وتعطشهم للانتصار العسكري. تسنى للبريطاني اللامع الوقت لتغيير رأيه، بعد أن رأى بأم عينيه بعد الحرب العالمية الثانية، تكلفة تجاهل المثقف للحقائق وتكلفة سلميته وأيديولوجيته السخية التي قد تضلّله إلى حد كبير. ذلك لأنه لا يحق لنا الاستسلام للتهديدات! وفي حال الرضوخ والاستسلام، فهذا لا يعني التحصن من المخاوف لفترة طويلة. هل تعتقدون أن التحريريين بيننا قادرون على المطالبة بالسلام، من خلال الاستسلام والتخلي عن مكاسبهم التي تشكل مجرد ضمانات؟ لا يصح أي شيء من ذلك، ولا يكتسب السلام بالسجود أمام إملاءات آيات الله الإيرانيين!

عالمنا العلماني وعودة الدين
الحقيقة أن ما يفصل بيننا وبينهم هو فرق جوهري. لقد شرعنا عام 1839، عقب اختيارنا لنظام “حديث” مستوحى من النموذج الغربي في عملية إصلاح لعاداتنا السياسية، وبالتحديد تلك الخاصة بتنظيمات الإمبراطورية العثمانية. الاتجاه كان نحو العلمنة، وطُلب من المتدينين إخلاء أزقة السلطة السياسية تدريجياً بعد قرون سادت فيها الشريعة. لم يستطع أحد تلخيص الوضع بصورة أفضل من برودون الذي رأى في أوروبا أن فكرة التقدم تحل في الفلسفة محل المطلق. الثورة تخلف الوحي. ويكشف المنطق بمساعدة التجارب قوانين الطبيعة والمجتمع للإنسان. ثم يكشف المنطق نفسه أن هذه القوانين فرضت بفعل الضرورة ولم يشرعها أحد وبالتالي لا يمكن لأحد فرضها.
في أعقاب الحرب العالمية الأولى، كان من المقرر اتباع مسار ما يسمى بالعلمنة، والذي ينص على الفصل التدريجي بين المجال العام والمجال الديني في بلاد الشام، بدءًا من إعادة تعريف الحدود الدولية. بعد إلغاء أتاتورك الخلافة عام 1924، رأى البعض في ذلك إعلاناً رسمياً لفصل “المقدس” عن الحياة السياسية في أرض الإسلام. ولكن من كان ليتخيل في ذلك الوقت، “عودة الدين”؟ ومع ذلك، أتى استيلاء الخميني على السلطة بعد حوالي ستين عامًا، لينتقم من فكرة فصل الدين عن السياسة و”الطلاق غير الواعي” (الفصام النقيض) الذي يندد به الأصوليون.

مبادئنا التأسيسية ومبادئهم
لقد ولد الدستور اللبناني بالمعنى الشامل من اتفاق بين أصحاب المصلحة. ومع توخي الاحترام للدين، نصّ ميثاقنا على أن الشعب، وليس “الكائن الأسمى”، هو مصدر السلطات. من هنا، أتى القانون الوضعي ليحكمنا، وبقي القانون الإلهي الاستثناء الذي ينظم الأحوال الشخصية. باختصار، نظامنا السياسي ليس نظام الجمهورية الإسلامية في إيران الذي يترأسه المرشد الأعلى المختار من العلماء والأقران ليمثل الشرعية الدينية. بالنسبة لنا، هو مجرد إمام لم ننتخبه وبالتالي، قواعده غير ملزمة. لكن كيف يمكننا شرح ذلك لمعتنقي مبادئ ثورة الخميني! كيف يمكن دفع مناضل من القاعدة للإستماع لصوت العقل وهو يصغي لولي الله على الأرض وهو يتحدث عن قضية ما بالصدفة؟

من هنا صعوبة إيجاد أرضية مشتركة مع ولاية الفقيه. نحن في مرحلة يصعب فيها التعايش مع هذا الفريق الذي يعتبر أن الله يقف في صفّه، بينما نحن مجرد بؤساء فقراء يتقاذفنا مجرى التاريخ في ظل توجهاتنا الدينية ومعتقداتنا المسيحية.

بالعودة إلى العلمانيين محط نقاشنا، أولئك اليساريون السابقون، والذين دائمًا ما تتشح الخلافات والمناقشات والجدال معهم بالتنميق.. من الأجدى لهؤلاء الذين خاب أملهم من الحتمية التاريخية، معارضة القبضة الخانقة للدين في السياسة، لأن انتصاره سيجعل منهم أول الضحايا. ولكن لا يزال دعاة السلام هؤلاء، الآتون من حقبة أخرى كرواد الصالونات البلشفية، يخطئون في تقدير هوية الخصم. ولا يزالون يكررون الموّال نفسه الذي يشوّه سمعة الطائفية.. آفة النظام اللبناني. ويطالبون بإلغاء الطائفية السياسية بلا بصيرة، متجاهلين أن هكذا خطوة لا تخدم سوى نظام آية الله!

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع ذات صلة :

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us