منظومة الأمونيوم .. والعدالة المستحيلة


الأمونيوم

لقد أبلى رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود بلاءً حسناً، بمسارعته إلى تطويق ما حصل ونزع فتيل تفجير كبير داخل مؤسسة القضاء، عبر اتفاق خفيّ قوامه أن يؤجّل البيطار جلسات التحقيق التي كان مقرراً انطلاقها اعتباراً من 6 شباط الماضي، مقابل تجميد عويدات مذكرة إحضار كانت قيد الإعداد، وتكليف جهاز أمن الدولة بتوقيف المحقق العدلي ما قد ينذر بنتائج كارثية وغير مسبوقة بتاريخ القضاء اللبناني


كتب يوسف دياب لـ”هنا لبنان”:

لم يعد التحقيق العدلي بجريمة تفجير مرفأ بيروت، مطلباً ملحّاً للبنانيين ولذوي الضحايا، ولا ملاذاً أخيراً لمعرفة الحقيقة وكشف المتورطين.. هؤلاء جميعاً فقدوا الأمل بعدالة ارتضى بعض حرّاسها أن يكونوا طائعين لإرادة سلطة عينتهم في مناصبهم لتستفيد من خدماتهم كلّما اقتضت الضرورة.

ليس تفصيلاً أن تحل الذكرى الثالثة لنكبة بيروت، في ظلّ عدالة معطلة، ومحقّق عدلي محاصر بعشرات الدعاوى التي تسعى إلى تطييره.. مشكلة طارق البيطار مع منظومة الحكم الرافضة لبقائه في موقعه، أنّه كسر المحرمات وتجرّأ على ملاحقة سياسيين وأمنيين وعسكريين تبيّن له أنّهم مسؤولون أقلّه بالتقصير، وتجاهلوا عمداً الخطر المحدق بالعاصمة جرّاء وجود آلاف الأطنان من نيترات الأمونيوم في المرفأ لسبع سنوات من دون أن يحركوا ساكناً، أو يأخذوا التقارير والتحذيرات على محمل الجدّ.

أمام انسداد الأفق وقتامة المشهد، يصعب الرهان على عدالة تقف أسيرة قضاء منقسم على كل شيء.. لا يمكن لأي مراقب إلّا أن يلمس اصطفاف الجسم القضائي بين معسكرين، الأول يدعم مسار العدالة وإسقاط الحصانات للوصول إلى الحقيقة، وهذا قليل العدد والتأثير للأسف، وآخر لا يجد عدالة ناجزة إلّا بـ”قبع” البيطار واستبداله بمحقق آخر طيّع وخاضع، ويلتزم مسبقاً بخريطة طريق تكفل حماية منظومة الفساد وتخرج السياسيين من دائرة الملاحقة وتبقي سيف القضاء فوق رؤوس الضعفاء الذين لا أحزاب تحميهم، ولا طوائف تجنّبهم كأس الملاحقة والتوقيف.

ثلاث سنوات مرّت على الكارثة التي حلّت ببيروت، وأهلها ينتظرون حكم القضاء، ليتبيّن لهم أنّهم متروكون لقدرهم، جرّاء الإمعان في تقويض التحقيق وزرع الألغام التي تنذر بتفجيره وربما تفجير البلد، ما يجعل اللجوء إلى العدالة الدولية مبرراً ومستعجلاً، وليصبح تخوين المطالبين بها خيانة مكتملة.. إن تجربة المرحلة السابقة عرّت منظومة الإجرام وأظهرت للبنانيين والعالم أن العدالة تطال الضعفاء دون سواهم.. ألم يقل أحد أبرز رموز السلطة في لبنان “إنّ الضعيف هو من يلجأ للقضاء”؟

السواد الأعظم من اللبنانيين غاضبون وبصمت ممّا آل إليه مسار التحقيق، لكنّ وسائل مواجهتهم لهذا الواقع معدومة.. المؤلم والمحزن بهذه المناسبة أن يُترك أهالي الضحايا وحدهم يكتوون بنار الانتظار ويواجهون بصدورٍ عارية منظومة التعطيل التي أعفت أجهزة أمنية من مسؤولية تعقّب المجرمين والسارقين وقطّاع الطرق، وفرّغتها لتعقّب وليم نون ورفاقه من الأهالي المفجوعين.

ثمّة من يعتقد أنّ شيئاً ما سيتغيّر، أو يراهن على مفاجأة قد يفجّرها البيطار ويصدر قراره الاتهامي بين ليلة وضحاها، لكنّ هذه تكهنات تجافي الحقيقة ولا تعدو كونها “أضغاث أحلام”.. صحيح أنّ المحقق العدلي أنجز 70 بالمئة من تحقيقاته وبات قاب قوسين أو أدنى من إعلان حقيقة ما حصل في الرابع من آب 2020، لكن عجلة تحقيقاته ستبقى أسيرة دعاوى الردّ والمخاصمة، منذ أن ضمّن لائحة ادعائه قادة سياسيين وأمنيين وعسكريين وقضائيين، ومن استرسل في ضخّ التوقعات، فاته أنّ القرار الاتهامي لا يمكن أن يصدر إلّا بعد استجواب جميع المدّعى عليهم وختم التحقيق، وإحالته على النيابة العامة التمييزية لإبداء مطالعتها بالأساس، وهذا ممرٌ إلزامي قبل صدور القرار الاتهامي، حتى لو خالف القرار كلّ ما يرد بمطالعة النيابة العامة وتجاهل مطالبها.

عندما قرر البيطار كسر الحلقة المقفلة، وأصدر مطلع العام الحالي اجتهاداً قانونياً اعتبر فيه أنّ المحقق العدلي لا يخضع لدعاوى الردّ، وكشف لائحة إدّعاء جديدة ضمنها أسماء النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات والمحامي العام التمييزي القاضي غسان الخوري والقاضيين في أمور العجلة كارلا شواح وجاد معلوف، شكّلت خطوته صدمة غير متوقعة، أيّده بعض رجال القانون وخالفه كثيرون منهم، فجاء الردّ سريعاً من القاضي عويدات، الذي أعلن رفضه تسلم أيّ ورقة من المحقق العدلي أو تنفيذ أيّ مذكرة تصدر عنه، ثم اتخذ قراراً فورياً بالإفراج عن جميع الموقوفين بالملف دفعة واحدة، أتبعه بالادعاء على البيطار بجرم “انتحال صفة محقق عدلي واغتصاب سلطة”، ولوّح (عويدات) بإصدار مذكرة إحضار بحقّه وتكليف جهاز أمن الدولة بتنفيذها، وكانت الخطة تقتضي باعتقال البيطار فور حضوره إلى مكتبه في قصر العدل في بيروت، لولا التدخلات التي حالت دون وقوع الأسوأ.

لقد أبلى رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود بلاء حسناً، بمسارعته إلى تطويق ما حصل ونزع فتيل تفجير كبير داخل مؤسسة القضاء، عبر اتفاق خفيّ قوامه أن يؤجّل البيطار جلسات التحقيق التي كان مقرراً انطلاقها اعتبار من 6 شباط الماضي، مقابل تجميد عويدات مذكرة إحضار كانت قيد الاعداد، وتكليف جهاز أمن الدولة بتوقيف المحقق العدلي ما قد ينذر بنتائج كارثية وغير مسبوقة بتاريخ القضاء اللبناني.

اليوم وبعد أكثر من شهر على قرار رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبّود، بتعيين قاضي تحقيق لاستجواب البيطار بدعوى اغتصاب السلطة لم يطرأ أي جديد، فالرئيس الأول لمحكمة الاستئناف في بيروت القاضي حبيب رزق الله الذي كلّف بهذه المهّمة لم يستجوب البيطار ولم يحدّد موعداً لذلك، ومجلس القضاء الأعلى الذي تقع على عاتقه مسؤولية تعيين هيئة اتهامية للنظر بصوابية قرار قاضي التحقيق لم يقدم على هذه الخطوة، ما يعني أن لغزاً ما يعطّل هذا المسار، لا أحد يجد تفسيراً له أو يملك القدرة على تفكيكه، هذا اللغز يملكه الراسخون بعلم التعطيل، وربما مراجع في قصر العدل، ولا يبدو أنّه حان موعد البوح بأسراره، لما لها من تداعيات قضائية وسياسية يصعب احتواؤها.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us