فؤاد شهاب .. “الرئيس القائد”!


أخبار بارزة, خاص 14 آب, 2023
فؤاد شهاب

رئاسياً، امتدت ولاية شهاب بين عامي 1958 و1964، وخلالها تحلّى بالعفة والنزاهة، وتميّز بمواجهة الضغوط الخارجية، كما أعطى للدور اللبناني أهمية وحضورًا دوليًا في المؤسسات والمنظمات الدولية كافة.


كتبت فاتن الحاج حسن لـ”هنا لبنان”:

في ظلّ الفراغ الرئاسي، تستعيد الذاكرة السياسيّة اللبنانيّة الرئيس اللواء فؤاد شهاب، الذي جاء من عمق المؤسّسة العسكريّة، وكان له الأثر البالغ في مرحلةٍ دقيقةٍ من تاريخ لبنان، كما كانت له مدرسة اتّبعها العديد من السياسيّين وأعطت للحياة السياسيّة نموذجاً في الأداء المميّز والمثمر والتنموي.

فؤاد شهاب عسكري الهوى، انصرف إلى بناء المؤسسة العسكرية وتطويرها، بعيداً عن دهاليز السياسة، إذ كان يضع نصب عينيه  إنشاء وإعداد جيش متقدم وعصري تقنيًا وعلميًا، ويستند إلى أسس وطنية محلية، ويبقى موحداً رغم كلّ الصعاب.

هو “الأب الروحي للجيش اللبناني”،الذي سبق أن خاطب عناصر بالقول: “إن هذه هي المناسبة الأولى للجيش اللبناني كي يثبت وجوده كوحدة قتالية، وكما أن لا عجة دون كسر بيض، لا بد من تضحيات، إما صليب حرب (وسام حرب) فنقول برافو وإما صليب قبر فنقول يرحمه الله، فيصبح بطلًا”.

المناقبيّة التي تميّز بها شهاب، لفتت إليه أنظار الرأي العامّ اللبناني، فكان في واجهة الأحداث المتعاقبة.

وبعد استقالة الرئيس بشارة الخوري في منتصف ولايته الثانية، وانتخاب كميل شمعون رئيساً للجمهوريّة عام 1952، تابع اللواء فؤاد شهاب النهج نفسه على رأس المؤسسة العسكريّة، فتعاطى بدقّة واعتدال مع الاشتباك السياسي الداخلي، وكان أوج تلك الإشتباكات أزمة عام 1958 التي اختار فيها اللواء شهاب الوقوف في صفّ الشرعيّة وعدم زجّ الجيش في الاقتتال بين فئتين وازنتين من اللبنانيّين.

بانتهاء الأزمة، لم يكن أمام القوى المحليّة المتصارعة ومن خلفها القوى الإقليميّة والدوليّة المصطفّة، إلّا خيار ترشيح فؤاد شهاب لرئاسة الجمهوريّة. وهكذا كان، وهكذا جاء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية بالاتفاق بين الرئيس جمال عبد الناصر والأميركيين عام 1958 في نهاية عهد شمعون، وذلك في فترة حرجة من تاريخ لبنان والمنطقة.

الرجل العسكري رئيساً للجمهورية

كان فؤاد شهاب الرجل المناسب لتلك المرحلة، فهو سليل أسرة لها عراقتها ونفوذها، حيث حكمت ما يقارب أحد عشر عقداً من الزمان، وهو أيضاً واجه ظروفاً اجتماعية قاهرة دفعته نحو النجاح.

أدار الرئيس القادم من مؤسسة عسكرية، الساحة السياسيّة بدبلوماسية تقرّب لا تفرّق، فاستطاع انتزاع فتيل أزمة عام 1958 وانطلق في التنمية الشاملة للاقتصاد اللبناني على مختلف المستويات ودون تمييزٍ بين منطقةٍ وأخرى؛ فتحقٌّقت خلال ولايته أعظم الإنجازات والمشاريع على الصّعد الإداريّة والمؤسّساتيّة والقانونيّة والتربويّة والإنمائيّة، التي لا تزال بارزةً للعيان حتّى الآن.
واستندت تلك الإنجازات إلى أُسس البحث والإحصاء والتحليل العلمي، وشلمت استضافة بعثة “إرفد” لتقييم الواقع الاقتصادي – الاجتماعي في لبنان ووضع خططٍ للنهوض.
وبالتوازي مع المسار التنموي، رسّخ الرئيس شهاب مساراً سياسيّاً داخليّاً قائماً على إقامة التوازن بين مختلف التوجّهات والأطياف اللبنانيّة، ومساراً خارجيّاً حرص من خلاله على صيانة سيادة لبنان واستقلاليّة قراره دون الانحياز إلى أيّ محور؛ فكان استقباله للرئيس المصري جمال عبد الناصر في مستهلّ عهده على الحدود بين لبنان وسوريا دلالةً على توجّهه الحيادي. وقد عرف هذا اللقاء بلقاء الخيمة.

وسجّل الرئيس جمال عبد الناصر ملاحظة لافتة، إذ قال “اكتشفت في اجتماع الخيمة أنني كنت أحكي كثيرًا، والرئيس شهاب يتكلم قليلاً، وكان مستمعًا جيدًا”.

على صعيد المسؤولية الرئاسية التي كلّف بها، عمل شهاب بكل وطنية وإخلاص، رغم أنّ السلطة لم تكون طموحه، فأزال أسباب الانتفاضة ودرس نتائجها، وعمل على تعزيز الوحدة الوطنية اللبنانية، كما اعتمد على الخبرة الفرنسية للنهوض بواقع البلاد الإداري والاقتصادي، فضلًا عن إصلاح النظام الإداري السابق القائم على التوازنات الطائفية، لا الكفاءة والنزاهة.

ومن بين القضايا التي أولاها أهمية، قضية التعليم وتطويره إذ اعتبر هذا القطاع من مقوّمات النهوض الوطني، وكان لديه نظرة اقتصادية شاملة تيشمال الزراعة والصناعة والسياحة، والتبادل التجاري والتعامل المصرفي.

في عهد الرئيس فؤاد شهاب ارتفع الناتج القومي اللبناني أضعاف ما كان عليه في العهود التي سبقت مدّة حكمه، وهو أيضاً طوّر شبكات النقل كي يعطي لبنان صورة حضارية وعمرانية متقدمة.

كرّس الرئيس شهاب صورة القائد ومزاياه في الحنكة الإدارية والخبرة الميدانية، فأظهر أنّه عسكريًا محترفًا، وسياسيًا متألقًا في تجاوز الأزمات، وهكذا واجه المحاولة الانقلابية.

تعامل شهاب بالتعقل، وترك القضاء يأخذ دوره، منبهًا ومحذرًا في الوقت ذاته من مغبة تدخل الجيش ورجال الاستخبارات في سير أيّ تحقيق، الموقف الوحيد الذي أخذه هو في الامتناع عن التوقيع على قرارات الإعدام، إيمانًا منه بأن الرحمة فوق أيّ قانون.

في مرحلة قيادته الجيش، اكتسب فؤاد شهاب ثقة جميع الطوائف، إذ لم يكن منحازاً لأيّ فريق، وكان الفكر الإصلاحي راسخًا في ذهنه، علماً أنّ شهاب قد تأثّر بالتيار الكاثوليكي خلال دراسته في فرنسا، وببناء دولة الرعاية الاجتماعية العصرية: “سأكون بارًّا بالجميع دون تمييز أو تفريق، وبارًّا بأرض الوطن وتاريخه ومستقبله”.

 

مشروع فؤاد شهاب

تميّز مشروع الرئيس شهاب بعدد من النقاط الأساسية، أهمها تزويد البلد بطاقم بديل عن الزعامات التقليدية، واستيعاب الأفرقاء المتقاتلين في أحداث 1958، كما اختار القيادات على أساس الـ”تكنوقراط”.

ونقل شهاب أيضاً مركز السلطة من الجهاز التشريعي إلى الجهاز التنفيذي، وأسّس لصعود قادة جدد تدعمهم الأجهزة الأمنية من أجل تنامي أكثرية نيابية متماسكة.

أما على الصعيد الإداري فقد سعى الرئيس شهاب للإصلاح الإداري، إذ أنشأ بنية إدارية موازية للإدارة التقليدية، وفصل تسلّط الإقطاع السياسي عن الإدارة، ومهّد لبناء قطاع عام حديث.

وفي عهده شجّع التوظيف على قاعدة الكفاءة والاختصاص، ووضع حجر الأساس لمؤسسات رسمية جديدة في مقدمتها مجلس الخدمة المدنية المتخصص بإجراء امتحانات لوظائف الإدارات والمؤسسات العامة، وهدف لتصحيح إخفاقات النظام الطائفي بإرساء قواعد العدالة الاقتصادية والاجتماعية والإدارية.

وفي عهد شهاب تأسّس مجلس الخدمة المدنية، ليكون مسؤولًا بصورة كاملة عن الأعمال المركزية المتعلقة بالموظفين وإعدادهم وتدريبهم في الإدارة اللبنانية.

وأصدر الرئيس شهاب المرسوم رقم 113 الخاص برواتب التقاعد للخدمة المدنية، وبشروط إنهاء الخدمة، وكذلك أصدر عددًا من المراسيم التنظيمية، وأدخل تعديلات معينة لازمة لتحقيق أهداف إصلاحية شاملة.

ركّز العهد الشهابي على الاهتمام بالتعليم والأدارة ، والاهتمام بالطبقة الوسطى من ناحية التوجه التعليمي، حيث بدأ النمو المتسارع للجامعة اللبنانية الحكومية.

كذلك شهدت الدولة اللبنانية في العهد الشهابي دورا نشطًا في التنمية المناطقية، وفي العدالة الاجتماعية لنتائج النمو الاقتصادي.

وأنفق الرئيس شهاب في عهده أموالًا كثيرة، في إنشاء البنى التحتية، وتوحيد السوق الداخلي من خلال توسيع شبكة المواصلات، وجرّ المياه، وإيصال الكهرباء الى المناطق والقرى النائية، وبناء المستشفيات والمستوصفات في القرى.
شهاب يستقيل.. “المهمة الاستثنائية انتهت”!

قدّم الرئيس شهاب استقالته في 20 تموز 1960، مبررًا ذلك بأن مهمته الاستثنائية قد انتهت، إذ أصبح للبنان مجلس نيابي منتخب. استقالة شهاب لم تمضِ طريقها، إذ تراجع عنها نتيجة الضغوط الشعبية العارمة.

أنتج الرئيس شهاب ظاهرة سياسية أصبحت فيما بعد تكتلًا وطنيًا عُرف بالشهابيين أو (النهجيين)، الذين جاهدوا لإعادة انتخابه لرئاسة الجمهورية من جديد، لكنّه رفض ذلك أيضاً، كما رفض أن يخلفه رئيساً من أسرة آل شهاب، كي لا يًقال إنه عمل على إعادة حكم الشهابيين إلى لبنان.

ناقض سلوك الرئيس شهاب الديكتاتوريات التي كانت تحكمه آنذاك في الدول المجاورة، فكان أوّل خصم وأوّل معارض لتجديد رئاسته، لذلك خرج منها، وذهب إلى العزلة وانطوى على نفسه، كي لا تلاحقه لعنة الفساد والرشوة والكسب غير المشروع.

إلى ذلك بقي الرئيس فؤاد شهاب محافظاً على ثوابت الدولة والحريّات العامّة والإنماء الفعّال والحرص على سيادة القانون حتّى عام 1964، حينما رفض التجديد له رغم الضغوط والتمنيّات، ليقضي ما تبقّى من حياته بعيداً عن أجواء السياسة اللبنانيّة الضيّقة والمتقلّبة وعاكفاً على القراءة وممارسة الرياضة والعيش الهادئ مع زوجته، إلى أن وافته المنيّة عام 1973إثر نوبة قلبية.

 

 

من هو فؤاد شهاب؟

ولد فؤاد شهاب في كسروان في بلدة غزير عام 1902، تركه والده وسافر إلى الولايات المتحدة حيث انقطعت أخباره، فتعهد أخواله بتربيته، وعاش في كنف عائلتي حبيش وخازن.

كانت أسرة فؤاد شهاب تعاني اقتصادياً، وهذا ما جعله يترك الدراسة ويتوجه نحو العمل في محكمة جونية بإيعاز من خاله وديع حبيش، لكي يعيل أسرته.

حياته اليومية كانت قاسية، إذ كان يقف عند باب المحكمة وينادي بصوت عالٍ على المتعارضين والشهود، واللافت أنّه حتى بعد وصوله للرئاسة، لم يخجل من هذه التجربة، إذ كان يتحدث عنها ويعتبرها جزءاً مشرقاً من حياته.
اطلع فؤاد شهاب على الثقافة الفرنسية وأعجب بالحضارة الغربية، أما شخصيته فتطبّعت بالبيتين الحبيشي والشهابي.

دخل الجيش الفرنسي عام 1919 ضمن وحدة الخيالة السورية في شرق الاسكندرونة، كما دخل المدرسة الحربية في دمشق عام 1921 وأصبح معاوناً عام 1922 ثم ضابطاً عام 1923 في الدورة التي حملت اسم هنري غورو .

تعرّف فؤاد شباب  على روز رينه بواتيو إبنة الكولونيل لوي بواتيو وتزوجها في كنيسة مار ضومط للآباء الكرمليين في القبيات 27 كانون الأوّل 1926.

في باريس دخل مدرسة الحرب العليا، وفي العام 1933 خضع لدورة أركان عسكرية في المدرسة الحربية في حمص، التي أهلته هي الأخرى ليكون ضمن الفرقة العسكرية اللبنانية الأولى التي تشكّلت في 21 أيلول 1936.كما أصبح برتبة مقدم عام 1937. لقد كان اللواء فؤاد شهاب أوّل قائدٍ للجيش عام 1945 بعد الاستقلال، وعمل على بناء مؤسّسةٍ عسكريّةٍ متماسكةٍ رافقت الاستقلال عام 1943 وجلاء القوّات الأجنبيّة عن لبنان عام 1946، وخاضت بكلّ فعاليّةٍ الحرب في فلسطين جنباً إلى جنبٍ مع الجيوش العربيّة عام 1948.

رئاسياً، امتدت ولاية شهاب بين عامي 1958 و1964، وخلالها تحلّى بالعفة والنزاهة، وتميّز بمواجهة الضغوط الخارجية، كما أعطى للدور اللبناني أهمية وحضورًا دوليًا في المؤسسات والمنظمات الدولية كافة.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us

Skip to toolbar