لبنان ونظرية الأواني المستطرقة

لبنان

كتب Nicolas Sbeih لـ“Ici Beyrouth”:

من لم يسبق له أن سمع عن نظرية الأواني المستطرقة الشهيرة؟ وفقاً لتجربة لافوازييه، تأخذ المادة شكل الأواني التي تشغلها وترتفع فيها بمنسوب واحد، فلا يضيع شيء منها. وتنطبق هذه النظرية المرتبطة بالدورة الفيزيائية القصيرة في “ميكانيكا الموائع”، على العديد من المجالات في لبنان، بما في ذلك الاقتصاد. ولكننا لا ندرك ذلك، لأن الظاهرة قد تواجه عوائق في بعض الأحيان أو تأخذ وقتاً طويلاً كي تحدث. وعلى المستوى العالمي، على سبيل المثال، يمكن ملاحظة أن الدول المتقدمة والدول الناشئة تنمو باتجاهين متعاكسين. فقد تزدهر الأولى بينما تنتكس الثانية، ثم العكس.
أما عندنا فنختبر منذ فترة طويلة أوانٍ مستطرقة، بعضها موجود منذ الأزل، والبعض الآخر ظهر بشكل مزعج خلال الأزمة. أحد أقدم أشكال هذه الظاهرة وأكثرها تواتراً يترجم بالتبادل بين لبنان “المقيمين” ولبنان “غير المقيمين”.
وبمجرد حدوث أزمة، يبرز مثلاً حزب الله ملوحاً بالحرب، أو يطول الفراغ في بعبدا (حتى ولو سكن مستأجر ما القصر)، وهناك مصرف يتحول إلى التبييض أو الإفلاس.. فيزرع ذلك القلق في نفوس الجميع ويبدأ موسم هجرة جديد فتغادر الحشود حاملة أموالها، ثم تعيد وتصب الدولارات الجديدة، التي كسبتها في مكان آخر، لأحبائها أو تنفقها بنفسها خلال زياراتها أو تتلاشى أموالها أدراج الريح، ولكنها غالبًا ما تعود مع عودة الهدوء. أليس هذا ما حدث عام 2005، ثم عام 2006، ثم مع الحرب السورية وغيرها. ولم يزعج الأمر أحداً في ذلك الوقت.
وفي عام 2019، كان من المتوقع أيضًا حدوث ظاهرة الأواني المستطرقة. وكان يفترض بالأموال التي خرجت عام 2018، أو بعد تشرين الأول 2019، أن تعود بمجرد حل الأزمة أو تصحيحها، باستثناء أن ذلك لم يحدث أبدًا، وبذلنا كل ما في وسعنا لإستدامة الوضع.
منذ تشرين الأول حدثت ظواهر أخرى تعكس الأواني المستطرقة، لكنها جديدة تمامًا بالنسبة لنا، ولها تأثيرات دراماتيكية. الأولى تدفق الأموال من المودعين إلى المدينين، لأن المدينين (حوالي 600 ألف) تمكنوا من تصفية ديونهم المصرفية بتكلفة زهيدة. وقُدر هذا التحويل بين الجهتين بـ 29 مليار دولار، خسرها المودعون – من حيث المبدأ.
لماذا من حيث المبدأ؟ لأن كل مدين هو بالضرورة مودع أيضًا. بالتالي، يعتمد رصيد خسارته أو ربحه على المستوى النسبي لودائعه وديونه. يفرغ إناء هنا كما تذكرنا النظرية بينما يمتلئ الإناء الآخر. لم يحصل المودعون الذين لا يتكبدوا أي ديون إلا على الخسائر. انكسر الإناء كله في المجمل.
وهناك الظاهرة الثانية التي لطالما كانت موجودة وما زالت، والتي تتجسد بالشبكة الآنية التي تربط الناس بالدولة، مع سياسييها وحاشيتها وموظفي القطاع العام وكل من يدور بفلكها.
قبل 2019، تولى الشعب ملء إناء الدولة بدفع بعض الضرائب والرسوم والإكراميات. هذا بالحد الأدنى. وقدمت الدولة في المقابل بعض الخدمات الأساسية، بشكل محدود. لم يسعد هذا الوضع أحداً، لكن التوازن أوجد نفسه بشكل طبيعي على مر السنين.
بعد عام 2019، أصبحت حركة “الإستطراق” تسير باتجاه واحد. الناس مدعوون لسكب المال في القناة التي تذهب للدولة، دون انتظار الحصول على أي شيء في المقابل، فبين الأواني صمام يمنع المال من العودة. وهكذا اختل التوازن وازداد بؤس الملايين الذين يشعرون بالفعل أنهم على حافة الهاوية. ففي الواقع، قاعدة الأواني مشروطة: يجب أن تخضع الأنابيب لدرجة الضغط نفسها، وإلا فلن تتوازن المادة في الأوعية المختلفة. هذا ما حلّ بنا.
ومع ذلك، تضررت كل الروابط الحيوية بين الأنابيب المالية المختلفة في البلاد بشدة، بدءاً بالمصارف التي لعبت دوراً أساسياً في البلاد. ثم بدا أن المادة تنتقل بـ”القطارة”، وباتجاه واحد. لذلك، يجب إعادة إرساء أوعية نقل حقيقية، من خلال اعتمادات وودائع وخدمات جديدة..
من ناحية أخرى، لا بد من اختفاء بعض الأواني التي تعود للماضي: العلاقة بين المصارف ومصرف لبنان، والعلاقة بين مصرف لبنان والدولة، فقد تسبب سيل الأموال بينها جميعاً بالفعل بأضرار جسيمة.
لكن بعيداً عن مسار الفيزياء التطبيقية هذا، نعود للسؤال الأساسي: أين أصبحت أموالنا في متاهة الأواني المتعددة هذه؟ لم يختف المال، فحسب النظرية كما لحظنا في البداية “لا يضيع شيء من المادة” لكنه يصبح بأيدٍ أو أمكنة مختلفة. ولذلك يجب العثور عليه وإقامة روابط جديدة بين الأواني المستطرقة.
ما كان العزيز أنطوان لوران دو لافوازييه ليخطىء وعلى الرغم من ذلك، لم يكبح ذلك حكم الإعدام ضده لأسباب غامضة في بداية الثورة الفرنسية.
وبعد إدانته، طلب لافوازييه منحه بعض الوقت لينتهي من إحدى التجارب. وهو ما لم يحصل عليه قبل إعدامه بالمقصلة في أيار 1794. فإذا كنتم تعتقدون أنكم فقدتم الصواب منذ عام 2019، تذكروا أنكم ما زلتم تحتفظون برؤوسكم على الأقل!

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع ذات صلة :

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us