رحل زياد الرحباني… ولن تُسدل الستارة… فياض لـ”هنا لبنان”: كان كتابًا مفتوحًا وفنّانًا استثنائيًّا

زياد الرحباني صنع فيروز جديدة، إذ نعلم أنّه مع الأخوين الرحباني كانت لها شخصية. وعندما انتقلت مع حياتها إلى زياد، صارت شخصيةً مستقلةً لا علاقة لها بما قدّمته مع الأخوين الرحباني، فهو صنع لها امتدادًا إضافيًّا لسنوات عدّة. ولم يمنحها أغانٍ عادية ومألوفة، بل على العكس، خلق لها إبداعًا جديدًا.
كتبت كارول سلّوم لـ”هنا لبنان”:
في السادس والعشرين من تموز من العام 2025، صار زياد الرحباني البطل الأول في الأغنية التي لحنها لوالدته السيدة فيروز “سألوني الناس”، حيث، “أغمض أحباؤه أعينهم” ولم يعد موجودًا معهم، وحيث “أبكاهم الهوى… ولأول مرة لم يكونوا سويًا معه”. رحل الموسيقي المبدع زياد، ولن تُسدل الستارة عن فنّ لا يشبه غيره، وعن واقع لم يكن فيه مكان إلّا للعفوية والصدق.
هي خسارة الفن والفكر والثقافة في لبنان… ضاق خلق زياد من أجواء كثيرة، فَعبّر عنها في انتقاداته وكتاباته، مُستلهِمًا من روايات الحياة اليومية، حيث قدّم ما قدّمه في فنه ومسرحياته بأسلوب السهل الممتنع. في بعض الأحيان، كانت الحاجة ماسّة إلى ترجمة ما يقوله، إلّا أنّه في كل الأحوال كانت تمرّ كلماته كالنسمة الخفيفة. لم يعرف المُواربة في إعطاء كلّ ذي حق حقّه، وصراحته كانت سمته الأولى.
بإقرار كثيرين، كان زياد استثنائيًّا في شخصيته ومواقفه، كان عنيدًا عندما يكون الأمر مرتبطًا بالفن، ومتمرّدًا على مجتمع تسكنه النفوسُ السوداء. كان فيلسوفًا في بعض الأحيان، وطبيبًا نفسيًّا في أحيانٍ أُخرى. عشق الفنّ والقضية، وسعى إلى أن تكون كرامة الإنسان فوق كل اعتبار. ناضل من أجل الأمل، وأتقن لغة الشعب، وفي كل عمل له، رسالة هادفة. ببساطته، كان يحاول التوجيه والإرشاد. وهو من قال: “البسيط متى عرف أنّه بسيط لم يعد بسيطًا. الإنسان متى عرف الحقائق سقط عن سرير الأحلام”…
ويقول الناقد الفني الدكتور جمال فياض لموقع “هنا لبنان” إنّ “زياد الرحباني هو كتاب مفتوح، جميع الناس تعرف قصصه وحكاياته، وسبق له أن قالها في البرامج التلفزيونية والمقابلات، ولم يكن يخفي شيئًا، وكان يحوّل التفاصيل الصغيرة إلى نكتة، ويقولها على المسرح خلال تقديمه أغنية أو أي حفلة موسيقية. زياد شخصية عبقرية، وهو الفنان الوحيد في تاريخ الفن اللبناني الذي كان نجل فنانَيْن، لكنّه لم يكن له علاقة بهذا الانتساب في عمله وفنّه، وهو استقلّ بحياته وصنع فنًّا بمفرده”.
ويضيف فياض لموقعنا: “التقيت زياد الرحباني في آخر مرّة منذ عامين أو أكثر، في مناسبةٍ فنيةٍ، وسألته ماذا يفعل في هذه الأيام، فقال إنّه لا يفعل شيئًا، ولا نفس له أن يفعل، وهو ملتزم بأوامر الطبيب، يفعل ما يطلبه منه. وقلت له وقتها إنّني سمعت من المنتج الراحل أحمد موسى صاحب شركة “ريلاكس إن” أنّ هناك مجموعة أغانٍ جاهزة للسيدة فيروز، لكن لم تتم إذاعتها بعد، فقال إنّ الأغاني موجودة وجاهزة، لكنّ عندما تقرر الوالدة بثَّها نفعل ذلك، فما ينقص هو أن تضع صوتها، وسألته: يعني لم تضع صوتها؟ فأجاب بالنفي، وقال إنّ بعضها غير مكتمل”.
ويؤكّد فياض أن “الأغاني لم تُبثّ، وأنّ زياد كان معتكفًا في السنوات الأخيرة، ولم يرغب في إقامة حفلات، وأحضرت له عرضًا من خلال أصدقاء لي لإقامة حفلات في القاهرة، إلّا أنّه رفض، وفي سوريا ودار الأوبرا السورية وحلب، رفض ذلك، ولم يكن يرغب – وفق قوله – في إقامة الحفلات بسبب أنّ مزاجه ليس جيدًا. ومضت القصة، ولم يُقِم حفلات منذ سنوات”.
ويعتبر أنّ “زياد الرحباني آخر العباقرة والمبدعين في لبنان، وهو – كما قلت – الفنان الوحيد الذي وُلِد من أبوَيْن فنّانَيْن، لكنّه نجح مثلهما، وصنع لنفسه حالةً فنيةً، ونجح في ذلك”، قائلًا: “اعتقدنا أنّ أولاد الفنانين لا يمكن لهم أن ينجحوا مثل أهلهم، في حين أنّ زياد الرحباني كان الاستثناء الذي تمكّن من تحقيق نجاحه الكبير وحده، وبمنأى عن شخصية والده ووالدته، وحقّق النجاحات باستقلالية، وكان الناس يكنّون له الاحترام والتقدير ما يوازي إعجابهم بوالده ووالدته”.
ويقول: “كان زياد يعاني من أمراض في الكلى والكبد، ولم تكن صحته جيدة، وكان مهملًا لصحته، ولا يلتزم بأوامر الطبيب، لكن في السنوات الأخيرة، عندما خيّره الطبيب بين الالتزام بقراراته أو فلتُقَم الرحمة على نفسك، التزم بالقرارات، لكن يبدو أنّ الالتزام جاء متأخرًا. زياد هو شخصية متأثّرة بجميع الفنانين، من السيّد درويش إلى الأخوين الرحباني، لكن ما قدّمه لا علاقة له بكلّ ما تأثّر به. استوعب الأعمال الفنية السابقة، لكنه صنع شخصيته لوحده، ولم يُقلّد، ولم يستوحِ أيّ عمل من أعمال الآخرين. زياد الرحباني صنع فيروز جديدة، إذ نعلم أنه مع الأخوين الرحباني كانت لها شخصية. وعندما انتقلت مع حياتها إلى زياد، صارت شخصيةً مستقلةً لا علاقة لها بما قدّمته مع الأخوين الرحباني، فهو صنع لها امتدادًا إضافيًّا لسنوات عدّة. ولم يمنحها أغانٍ عادية ومألوفة، بل على العكس، خلق لها إبداعًا جديدًا”.
ويوضح فياض: “زياد صنع من الذين لا يغنّون مغنّين. وكان يعرف كيف يقدّم لهم اللحن الذي يجعل المؤدّي يغني هذا اللحن. تجربته مع المطربة لطيفة كانت ممتازة وغنية، وهناك ألبوم جديد كان يحضّره معها، لكن لا أعلم إذا أُنجز أو لا، ومنح سلمى التي لا علاقة لها بالغناء، أغانٍ، ونجحت، لأنّ زياد هو الذي كان طاغيًا في الأغنية أكثر من الصوت. أمّا مسرحياته فكانت جميعها فلسفة، وتتضمّن نظرةً إلى المستقبل، وكلّ ما قاله زياد فيها منذ ثلاثين وأربعين عامًا، نراه يتحقق اليوم، وكأنّه كان يقرأ المستقبل”.
ويشير إلى أنّ زياد الرحباني في أواخر مسرحياته، كان أوّل من ألمح إلى أن تركيا ستكون في الهرمل، وهذا كان وقتها بمثابة نكتة، وبالفعل نرى بعد الحروب التي حصلت أنّ تركيا صارت على حدود شمال لبنان من سوريا. زياد كان يقرأ المستقبل، وهو يملك فكرًا عقائديًّا، وخرج من عباءة الأخوين الرحباني، وسَخِرَ منها في بعض أعماله، وفي تركيزهم على القرية. وكان الراحل مُنظّمًا سياسيًّا، ويفكّر بعقلانيةٍ وفكرٍ وثقافةٍ، ولم يدفع ذلك إلى إقناع الآخرين ممّن يخالفونه الفكر السياسي أن يعادوه. وفي الحقيقة، اختلف اللبنانيون على كلّ الناس، ما عدا فيروز، ومن بعدها زياد الرحباني”.
لن تضمحلّ أعمال زياد الرحباني برحيله، لأنّ صوتها وصلابتها ستبقى حيّةً في ذاكرة كلّ لبنانيٍّ أصيل.