هكذا واجه بطريركا الإستقلال والشراكة والمحبة المتطاولين.. فشل “الحزب” في تحويل “بكركي” إلى “مجلس شيعي أعلى”

رحم الله البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير. وأطال بعمر البطريرك الكاردينال بشارة الراعي. الثاني كما الأول، يتابعان نفس الطريق لكن في حقبتين مختلفتين وشخصيتين أيضاً مختلفتين. فلكل واحد شخصيته. كانوا يسألون صفير فيجيب بكلمتين: “قلنا ما قلناه”. قليل الكلام كان. في حين أنّ الراعي يُسهب في الشرح. لكل واحد أسلوبه لكنهما- شاء من شاء وأبى من أبى- تابعا المبادئ الأساسية للبطريركية المارونية التي لا تتغير. بطريرك الإستقلال ردد دائماً “لستُ أنا الحلقة التي ستنكسر” و”إذا خيرتمونا بين الحرية والطلاق سننتقي الحرية”. أما البطريرك الراعي، بطريرك الكنيسة المارونية، فطالما دعا إلى “حياد لبنان” في الصراعات الإقليمية، من أجل ضمان خلاص لبنان. خلاص لبنان هو المحبة. وباسمِ الحبّ والسلام والحرية والخلاص تصرفا. أربعون عاماً مضت. عانى الأول ما عاناه ووصف مرات ومرات بالصهيوني، ويعاني الثاني ما يعانيه، وكلما دق كوز حزب الله بجرة سلاحه، يصف الثاني بالصهيوني. تهمة العمالة الجاهزة رميت على البطريركين اللذين وضعا نصب أعينهما لبنان وفقط لبنان. غضّ المسيحيون- والموارنة- النظر عن كل النعوت ليس خوفاً بل “باسم المحبة والتعايش”. فهل يعرف عنهما الآخرون شيئاً؟
كتبت نوال نصر لـ”هنا لبنان”:
في مشهدٍ “غير نظيف” وُصف البطريرك الراعي- من عقر دار حزب الله- بـ “الحاخام الأكبر”. سيادته لم يرد- كما لم يفعل لا هو ولا سلفه يوماً، لكن الكلّ يعرف أنه حين يتكرر ارتكاب خطأ ما من هذا النوع يكون قراراً واختياراً. نعم، قرار حزب الله- وأتباعه- كان ويستمر “التسلبط” على الآخرين. وهل هناك ما هو أسهل على هؤلاء من رمي توصيفات سيئة بحقّ بطريرك الموارنة والمضي وكأنهم لم يقترفوا شيئاً للدلالة على أسلوب “التسلبط” المنتهج؟ بالمختصر، من يتجاوز الإساءة ليس عاجزاً عن ردها لكنه عرف قدر المسيء فتجاهله، وعرف قدر نفسه فارتقى بها عن كل ما لا يليق بها. نقطة على السطر.
أدارت البطريركية المارونية- هذه المرة أيضاً- كما كل مرة- الخدّ الأيسر لمن صفع خدها الأيمن، لكن الناس، موارنة وغير موارنة، غير قادرين على ذلك. خصوصاً حين يسمعون “رغياً كثيراُ” من المفتي الجعفري الشيخ أحمد قبلان في توجهه الى البطريرك متحدثاً “عما يبطل الكنيسة” قائلاً: “لا توجد قوة بالأرض تستطيع نزع سلاح حزب الله”.
لن نخوض في تفاصيل جولة الإساءة الأخيرة- فهي في هذين اليومين على كل شفة ولسان- بل سنعود إلى جولات الإساءة المتكررة. فلنتذكر ما يفترض ألا ننساه أقله نكاية بالفعلة الذين يراهنون على ذاكرتنا القصيرة.
قبل أن يُصبح بشارة الراعي بطريركاً للموارنة كان بطرس صفير ذي القدمين الثابتتين والجبين العريض والحضور الآسر بطريرك الموارنة. همومنا كانت همومه. عاش مآسينا وآلامنا. تعبنا نحن أما هو فاستمرّ، في حياته، صامداً. يتكلم بصراحة حين يشاء وحين يقرر أن يسكت يسكت “فليس كل ما يقال يستحقّ رداً وجواباً وتعليقاً” هذا من قاموس البطريرك الراحل. التجاوز في حقّ غبطته أتى من أقربين وأبعدين. وهو، لمن لا يعرفه، يعرف جيدا “لعبة الانتظار” وأكثر ما يزعجه “الكذب والرياء” وأكثر ما يؤلمه هو “ظلم ذوي القربى”. ظُلم غبطته كثيرا وسامح، بعظمة ومحبة فعل، وهو الذي طالما قال وأكد أمام من يطالبه بأن يصدر “حرما دينيا” في حق من “لا يعرف حده ويقف عنده” “بأن الكنيسة تسامح” وبأن “بكركي تحدد التوجهات ولا تدخل في زواريب السياسة اللبنانية”.
هل تتذكرون نداء المطارنة الموارنة في أيلول العام 2000؟ كان يوم أربعاء، في العشرين من أيلول، إجتمع أصحاب السيادة المطارنة الموارنة في المقر البطريركي في بكركي، برئاسة غبطة البطريرك مارنصرالله بطرس صفير، وأصدروا نداء بدأ بجملة: “أما وقد بلغ الوضع في لبنان هذا الحد من التأزم، فأصبح من الواجب الجهر بالحقيقة، دون مواربة أو تحفظ (…) الحقيقة وحدها تنقذ وذلك قبل فوات الأوان”. يومها قيل ما قيل داعياً البيان الى خروج الجيش السوري من لبنان. ما أحلاه من يوم وبيان. وحدها بكركي إمتلكت جرأة المطالبة بذلك مجددة التأكيد: “لا نريد أن نعود الى الحروب التي دارت رحاها على أرض لبنان”. نعم، ما قيل يومها يتكرر بعد 25 عاماً اليوم: لا نريد أن نعود الى الحروب.
يومها، قبل 25 عاماً، ومع أن نصّ النداء لم يتضمن أي إشارة الى أي فئة لبنانية، هبت مرجعيات روحية الى الإستنكار وتوزعت زمر في أزقة وشوارع في بيروت، ووزعت مناشير تنذر بإحراق لبنان، محرضة على بكركي وأطلّ رئيس كتلة حزب الله النيابية محمد رعد معلناً: الوجود السوري في لبنان ضروري.
كرجت الأعوام. أيلول بعد أيلول بعد أيلول… وها قد مر 25 أيلول على أيلول ذاك عام 2000. خرج الجيش السوري. إغتيل رفيق الحريري. أقفل وسط بيروت وبات الكلام-عما لا يرضاه حزب الله- ممنوعاً. حصلت أحداث 7 أيار 2008. وفي كل تاريخ ومحطة كانت شظايا مسننة تصيب بكركي ونعوت بـ “الصهينة” و”العمالة” و”راعي الفساد”. كثيرون تجرؤوا على بثّ أحقادهم تجاه البطريركين بأمرٍ من حزب الله أو بغض نظر مقصود منه. وهؤلاء، من تجرأوا، دأبوا كلما أصدرت بكركي قراراً أو حتى تمنياً ما وضعوه في خانة “الخط الأحمر” مذكرين بكركي ورعيتها: أنّ السيّد (حسن نصرالله) هو من حمى كل بيت مسيحي. أرادوا أن يجعلوا من بكركي كما فعلوا بالمجلس الشيعي الأعلى “بيت وقف” لكنهم خسئوا.
البطريرك صفير حذر، على خلفية القرار الظني الذي كانت تستعد لإصداره المحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال رفيق الحريري، عام 2010: “حزب الله قد ينفذ انقلاباً” فزعل الحزب. ومن يتابع السرديات والتفاصيل يدرك تماماً أن العلاقة بين صفير وحارة حريك لم ترتق- في أحسنها- الى أكثر من المجاملات في المناسبات. واستمرّ غبطته بقوة ضد بقاء السلاح مع “الحزب”، وهو المطالب الدائم بجيش واحد لا جيشين. وبسلاح واحد لا بسلاحين. خونوه. ووجهوا سهام مسننة على موقعه وصدره. ويوم أتى الراعي تابعوا سياسة السلبطة والتخوين. هل تتذكرون يوم أراد الأخير زيارة الأراضي المقدسة عام 2014؟ يومها أراد بطريرك إنطاكيا وسائر المشرق الكاردينال ماربشارة بطرس الراعي الذهاب الى إسرائيل ومهاجمتها بسلاح أمضى بكثير من كل الأسلحة التي استخدمت منذ نكبة فلسطين عام 1948. اراد موافاة البابا فرنسيس الى الأردن، والإنتقال معه من عمان على متن طائرة أردنية ملكية الى مدينة بيت لحم في الضفة الغربية. أراد الذهاب بصليب معلنا: “القدس لنا وبيت لحم لنا وكنيسة القيامة لنا ودرب الجلجلة لنا ولكنيستنا أن تذهب للصلاة في المدينة المقدسة”. ارتفع الصراخ ومعه كثير كثير من النعوت. فهل مطلوب من الكنيسة المارونية أن تتنازل عن عشرة آلاف ماروني قذفتهم الرياح العاتية الى هناك ليرتاح من يستسهلون رشق الإتهامات جزافا؟ يومها قال من قال: أن الكنيسة مثل القطار الذي يمشي ومن يريد أن يمشي فليتبعنا. الكنيسة نوع آخر من المقاومة. إنها المقاومة الحقيقية. فلماذا يمنع بطريرك الكنيسة المارونية من الذهاب في زيارة رعوية حاملاً فيها صليب وكلمة الله؟ ولماذا كل النعوت التخوينية التي طاردوه بها؟ من هم ليقرروا سلوكيات بكركي تحت وصف “الصهينة”؟
مرّت 2014. ذهب الراعي وعاد. والبارحة، في آخر مقابلة له، سئل: هل من الممكن أن تزور القدس مجدداً؟ أجاب “إذا اقتضت الحاجة لذلك سأزورها”. غضب أيضا حزب الله. وها هي بكركي تخوّن من جديد. إنه استسهال رمي النعت بالعمالة على أيٍّ كان من أيٍّ كان.
والبارحة أيضاً، قبل أربعة أعوام، في 2021، رشقت بكركي بتفاهات جاهزة وظلامات. حصل ذلك، لأن بكركي دقت ناقوس الخطر رافعة شعار: لبنان أولا وأخيرا. ومن خطاب البطريرك يومها: لا للإنقلاب على الكيان. ونعم لجيش لبناني يدافع وحيداً عن لبنان. يومها جددت بكركي، التي لم تعتد اللف والدوران، تذكير حزب الله بأنه ليس الحاكم بأمر البلاد والعباد. نعم، بكركي شعرت يومها، بانقلابٍ على كل محاور الحياة الوطنية. شعرت بوجود نظام شمولي يحاول السيطرة على دولة غير شمولية. شعرت بوجود نظام أحادي يريد القضاء على دولة تعددية. فتكلمت.
سيّد بكركي “رفع الصوت” بمحبّة وبتحذير بأن لا بكركي ولا اللبنانيين سيسكتون ونادى الجموع “لا تسكتوا”. قال ذلك وهو يعلم علم اليقين أن من يمارس فعل الإنقلاب على لبنان لن يتراجع عن أي جزء من مشروعه، وسيعارض كل الطروحات، أكانت داخلية أو خارجية، التي تؤدي الى وقف أو تأخير مسار حركته الإنقلابية. وأنه كلما رأى الفريق الآخر- المعترض على استرداد الدولة للدولة- تصميم هذه الدولة على تعطيل مشروع إسقاطها، سيصبح أكثر شراسة.
مرّت العلاقة بين بكركي وحزب الله بمدٍّ وجزر. احداث كثيرة أكدت المؤكد أن بكركي بتحكي “صحّ” لكن من يملكون مشروع اللادولة لن يستسلموا بسهولة. وما نشهده اليوم سيناريو متجدد لمشروعٍ خطير.
مواضيع مماثلة للكاتب:
![]() هذه “سيادة لبنان” تاريخيًا مع “الفرس” وأدواتهم! | ![]() العشائر والعائلات و”الحزب”: “ليتشلع البلد ويبقى السلاح”! | ![]() خامس “4 آب” يحلّ وبيروت تنتظر: فخامته وعد والقرار الظنّي أنجز… العدالة آتية؟ |