بين التلوّث والتدخين ونمط الحياة غير الصحي… لبنان يتصدّر بالسرطان!


خاص 4 تشرين الأول, 2025

يحتلّ السرطان المرتبة الثانية على السُّلَّمِ الأسود لأسباب الوفيّات الرئيسية في لبنان، بعد أمراض القلب والأوعية الدموية، مثل الجلطات القلبية والسكتات الدماغية. نتيجة غير مستغرَبةٍ، في ظلّ توافر كل العوامل التي تعد بيئة خصبة لتحفيز الخلايا السرطانية.


كتب إيلي صروف لـ”هنا لبنان”:

في بلد منهك يُصارع على أكثر من جبهة، وينهش التلوّث مفاصله، وتقاعَدت فيه المعايير الصحية وأنظمة الرقابة والمحاسبة، لم يعد جائزًا أن نُجَهِّلَ مرض السرطان ونسمِّيه “هيداك المرض”. فالأصح نظرًا لخطورة الواقع والارتفاع المخيف في عدد الإصابات، أن تزداد التوعية حوله، والأهم حول كثرة العوامل التي تساهم في ارتفاع معدّلات الإصابة به.
يحتل السرطان المرتبة الثانية على السُّلَّمِ الأسود لأسباب الوفيّات الرئيسية في لبنان، بعد أمراض القلب والأوعية الدموية، مثل الجلطات القلبية والسكتات الدماغية. نتيجة غير مُستغرَبةٍ، في ظلّ توافر كل العوامل التي تعد بيئة خصبة لتحفيز الخلايا السرطانية.

فمن جهة، يشهد لبنان تلوثًا بيئيًا متعدّد الأبعاد، يشمل الهواء والمياه والتربة، نتيجة مجموعة من العوامل مثل الاستخدام المفرط للوقود الأحفوري (النفط والغاز الطبيعي) بسبب السيارات، المصانع، والمولّدات الكهربائية التي انتشرت بشكل كبير إثر معضلة انقطاع الكهرباء والأزمة الاقتصادية.

هذا فضلًا عن الإسراف في استخدام المُبيدات والأسمدة الكيميائية في الزراعة، ضُعف إدارة النفايات، تصريف مياه الصرف الصحي غير المعالَجة والنفايات الصناعية في الأنهار والبحر، وتنامي الأنشطة الصناعية غير المنظمة. كلّ ذلك يؤدّي إلى ارتفاع نسبة الملوّثات الكيميائية والميكروبية في المياه الجوفية والتربة، ممّا يشكل تهديدًا لصحة السكان ويزيد خطر الإصابة بالسرطان.

وقد كشف تقرير لعام 2023 من “Numbeo” (أكبر قاعدة بيانات تعاونية على الإنترنت، توفّر معلومات حول تكلفة المعيشة وجودة الحياة في المدن والدول حول العالم)، أنّ لبنان يحتلّ المرتبة الثالثة عالميًا من حيث التلوّث، مسجلًا 89,4 نقطة من 100، ما يجعله الأكثر تلوّثًا في المنطقة العربية.

من جهةٍ ثانيةٍ، يُعتبر لبنان من الدول ذات معدّلات التدخين المرتفعة، سواء للسجائر التقليدية أو النرجيلة، وهذا عامل رئيسي للإصابة بسرطان الرئة وأنواع أخرى من السرطان. وللأسف، باتت النرجيلة تُجاور الطربوش في قائمة الرموز الوطنية!

وقد أظهرت دراسة أجرتها المكتبة الوطنية للطب (NLM) -أكبر مكتبة طبية حيوية في العالم- في عام 2022، وشملت 2003 مشاركين، أن معدّل انتشار استخدام أي منتَج من منتجات التبغ بلغ 41 بالمئة.

إلى ذلك، يُعتبر نمط الحياة غير الصحي بيئةً حاضنةً لتطوّر وانتشار المرض الخبيث. فالتغذية غير المتوازنة التي تحتوي على نسب عالية من الدهون المُشبعة والسكريات والأطعمة المصنّعة، وتفتقر في المقابل إلى الفواكه والخضروات الطازجة، بالإضافة إلى قلّة النشاط البدني خاصة بسبب طبيعة الأعمال التي تتطلّب جلوسًا لفترات طويلة، وتعاطي بعض المواد الضارّة أو الكحول… تؤدّي إلى السمنة أو التهابات مزمنة أو طفرات جينية. وهذا يزيد بشكل كبير من احتمال نموّ الخلايا السرطانية.

من دون أن نُغفل العوامل الوراثية التي تزيد من قابليّة الإصابة بالسرطان، والتوتّر المزمن والضغط النفسي اللذَيْن قد يقودان إلى زيادة الالتهابات أو يؤثران في جهاز المناعة، ممّا يقلّل من قدرة الجسم على مكافحة الخلايا السرطانية.

السرطان إلى الواجهة

في خضم المناكفات السياسية والملفات الاقتصادية الضاغطة والمخاطر المتزايدة من اندلاع حرب إسرائيلية جديدة على لبنان، عاد كابوس السرطان إلى واجهة الاهتمامات المحلية، ولو موقتًا، إثر تقريرٍ نُشر في مجلة “ذا لانسيت – The Lancet” الطبية في 24 أيلول 2025. وقد أظهر أنّه ما بين عامَيْ 1990 و2023، شهد لبنان زيادةً بنسبة 80% في وفيّات السرطان، ليحتلّ بذلك المرتبة الأولى عالميًا بمعدّل الوفيات بسبب المرض المذكور خلال تلك الفترة. كما أفاد التقرير بأنّه من المتوقّع أن تستمر معدلات الإصابة والوفاة بالسرطان في الارتفاع في لبنان، ممّا يفرض تحدّيات كبيرة أمام النظام الصحي في البلاد.

لا شكّ أن هذه النسبة الصادمة تُشكّل جرس إنذار للمعنيين بالسياسات الصحية في لبنان، للعمل على وضع حدٍّ للزيادة المتوقعة في الوفيات الناجمة عن مرض السرطان. لكن في المقابل، كانت محلّ تشكيكٍ من قبل عدة جهات، إن لناحية المعايير المستخدمة في المقارنات التي تضمّنتها الدراسة، أو لناحية الأرقام المذكورة، لا سيما في ظلّ غياب تسجيل أعداد الوفيات بالمرض عام 1990 عقب الحرب اللبنانية؛ وعدم وجود تسجيل دقيق لأسباب الوفيات في لبنان حتى الساعة.

وفي هذا الإطار، ذكر وزير الصحة ركان ناصر الدين، أنّ “البيانات الواردة في المقال تستند لافتراضات ونماذج مُعدّة مسبقًا، وليس إلى أرقام واقعية متاحة، إذ إنّه لغاية الآن لا توجد في لبنان بيانات علمية دقيقة حول الوفيات الناجمة عن مرض السرطان. وقد تكون توقعات المجلّة مبالغًا فيها أو غير دقيقة بشكلٍ مطلقٍ”.

ارتفاع الوعي الصحي: بقعة ضوء في النفق المظلم

يشير الاختصاصي في أمراض الدم والأورام الخبيثة الدكتور أنور شيّا، في حديث لـ”هنا لبنان”، إلى أنّه “لا شكّ أن هناك ارتفاعًا بالأمراض وبأعداد الإصابات والوفيات بالسرطان، ولا شكّ أيضًا أنّ هذا المقال منشور في مجلة علمية مهمّة جدًا، إلّا أنّني لست متأكدًا من دقة النسب المتعلقة بلبنان، لأنّه للأسف لا توجد لدينا قاعدة بيانات (Database) كما في دول أخرى، حول الإصابات والوفيات بالسرطان”.
ويلفت إلى أنّه “استنادًا إلى عملنا الميداني، لاحظنا أن عددًا كبيرًا من المصابين لم يتمكّنوا خلال السنوات الماضية من الحصول على أدوية الأمراض السرطانية اللازمة، سواء بسبب غياب التغطية الصحية أو لعدم قدرتهم على الدخول إلى المستشفيات لتلقّي العلاجات الضرورية، أو حتى بسبب عدم توافر الأدوية في المستشفيات كافة. إذًا تتعدّد العوامل التي تؤدّي إلى ارتفاع أعداد الوفيات بالسرطان”.

أمّا عن أبرز أسباب ارتفاع أعداد الإصابات بالمرض الخبيث في لبنان، فيوضح شيّا أنّ “العامل الوراثي يقف وراء ما بين 5 إلى 10 بالمئة فقط من إجمالي الإصابات، في حين أنّ نحو 90 بالمئة من أنواع السرطان تسبّبها عوامل غير وراثية”.
ويشدّد على أنّ “نسبة التلوّث متعدّد الأوجُه مرتفعة جدًا، وهي تعدّ من أبرز المحركات لتحفيز الخلايا السرطانية وبالتالي ارتفاع عدد الإصابات. هذا بالإضافة إلى النظام الصحي المتدهور، والأوبئة المنتشرة، والحروب في المنطقة وما يستخدم فيها من أسلحة وما تخلّفه من أضرار… كلّها عوامل تزيد من خطر الإصابة بالسرطان، لكن لا يمكن تحديد سبب رئيسي واحد”.

كما يركّز شيّا على أنّ “عدد المدخنين أصبح هائلًا للأسف، ولا يقتصر على فئة عمرية دون غيرها، في ظلّ غيابٍ لأدنى إجراءات الرقابة الهادفة لتخفيض معدلات التدخين الخطرة”. وهنا لا بد من التذكير بأنّ القانون 174 القاضي بمنع التدخين في الأماكن العامة المغلقة في لبنان، كان قد دخل حيّز التنفيذ مطلع أيلول 2012. إلّا أنّ جولة بسيطة اليوم على المقاهي والمطاعم والملاهي في أي منطقة لبنانية، كفيلة لتؤكد أن الالتزام بتطبيق القانون شبه معدوم!
غير أن شيّا يُسجل نقطةً إيجابيةً وسط كل هذه الضبابية، تتعلّق بـ”ارتفاع الوعي الصحي لدى المواطنين، وإقبالهم على الفحوصات الدورية، ما يساهم في الكشف المبكّر عن حالات الإصابة ورفع احتمالات العلاج والشفاء”. ويؤكّد “ضرورة أن يكون الوصول إلى الخدمات الصحية والأدوية متوافرًا لجميع المواطنين بشكلٍ متساوٍ”.

صحيح أن منظمة الصحة العالمية تخصّص شهر تشرين الأول للتوعية بسرطان الثدي، لكن المعنيين في لبنان الذي تخنقه الانبعاثات السامّة من كل حدب وصوب، وتسمّمه المبيدات والأسمدة الكيميائية والمياه الملوّثة، يجب أن ينظموا حملات توعية مكثّفة على مدار السنة، إلى جانب الكثير من الإجراءات الأخرى؛ في محاولةٍ لإبطاء سرعة قطار السرطان. فهل سينجحون في سدّ الثغرات البنيوية في السياسات الصحية والبيئية، أم أنّ معدلات الإصابات والوفيات ستواصل مسارها التصاعدي؟.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us