الضيعة التي تأبى أن تنام.. الأشرفية والبشير والذاكرة والحضور والتاريخ والجغرافيا

لأنّ بدون الذاكرة لا توجد علاقة حقيقية مع المكان، تنبض قلوب أهالي الأشرفية بقوة كلما سرحوا في المدينة، في قلب “ضيعة” الأشرفية، القابعة على تلة بيروتية شامخة منذ الأزل وبقدرة العذراء- وأهل المدينة- الضيعة- إلى الأزل. هنا، في أحياء المدينة القديمة تتقدم الصوّر، تتراكم، تتزاحم. ننصت إلى خبريات زمان فتبث فينا فخراً. تدور أعيننا 350 درجة في الأرجاء فنسترجع وجوهاً ومواقف ورجالات. هنا، مرّ ذات يوم البشير. وهناك مرّ الآباء والأجداد، وهنالك يتمهل شباب وشابات، عند ناصيات ساسين ومونو وغورو والجميزة والسيوفي والسراسقة وهوفلين وكرم الزيتون والتباريس، مدركين أنّ للمكان عبقاً ليس في سواه. يا الله، كم لهذه المدينة من حضور في الذاكرة المتراكمة. هنا، في هذه المدينة- الضيعة الحيّة على الدوام، جلنا ململمين صوراً- من الذاكرة- لكلّ العمر.
كتبت نوال نصر لـ”هنا لبنان”:
يُقال “المكان الذي لا يؤنّث لا يعول عليه”. إسمها بالمؤنث: أشرفية. والأنثى أم الرجال. هنا، في الأشرفية، النساء هنّ الأخوات والأمهات اللواتي ولدنَ رجالاً، والتاريخ يشهد. الأشرفية تغيرت. هناك من يردّد هذا وهو يشاهد ناطحات السحاب التي حلّت مكان فرن شقير ودكان أبو إيلي وصالون سيمون وملحمة أبو نقولا. العابر في المدينة قد يصدق ما يُقال لكن من يتوغل في حناياها، ويتسلل إلى أزقتها، ويعرف تاريخها، يتأكد أنّ أولاد الأشرفية لا يمكنهم أن يتنفّسوا إلا فيها. فها هم يرتشفون القهوة في صباحاتهم في مقاهي شارع ساسين، تحت صورة البشير، فيتنفّسون. وها هم يمارسون رياضة المشي على أرصفة المدينة التي لونت جدرانها العتيقة أنامل فنانين شباب. وها هم يسهرون في الجميزة ومارمخايل ومونو. أولاد الأشرفية وإن غادروها يرجعون إليها يومياً. وكيف لا وهم “أشرفيون”.
نتجه إلى هناك من مدخل الجسر الذي يربط بين الدكوانة والأشرفية. هو لم يكن قبل حين، يوم كان سكان الأشرفية ينادون بعضهم من شارع ساسين إلى مدرسة أتشيناك: يا جارنا. كان الإكتظاظ أقل والسكن أكثر.
عند مدخل الأشرفية ترتفع آرمات تُحدد المكان: نورت الأشرفية. التوقيع: Lebanon of tomorrow. نبتسم. ونعبر بين حاضر وماضٍ. بين تمنيات وذكريات. هنا محل “خبية” وكم ارتدت من قبعاته نساء الأشرفية. نتابع صوب ساسين. العذراء تحتضن المارة. والباش حاضر، بالقلب والصورة، دائماً. نمرّ جنب جادة الرئيس الياس سركيس. ونتابع نزولاً نحو شارع بيضون. المختار أحمد سعيد بيضون ما زال مختاراً منذ ثلاثين، لا، أربعين، لا، لا، خمسين عاماً. وهو يُدرب إبنه اليوم ليأتي خلفاً له. مسيحيو الأشرفية، موارنة ساسين، ينادونه “مختارنا”.
نلتفّ صعوداً نحو كنيسة العطايا. قبل الكنيسة بقليل نصغي إلى آذان جامع بيضون. وبالقرب منه ثانوية علي بن أبي طالب. طوال الأحداث الأهلية- منذ 1975 إلى 1990- بقي المختار والجامع والثانوية في الأشرفية. نلتفّ مجدداً نحو ساسين. هنا ثكنة الياس الخوري. وهناك صيدلية بارتي الشهيرة. ثمة صيدليات بمجرد تمتمة إسمها نعرف موقعها أباً عن جد: حشاش وعتيق وبارتي. بين أهالي الأشرفية وبينها ودّ الإنتماء إلى نفس الهوية. نتجه نحو مدرسة زهرة الإحسان. هي أول مدرسة للفتيات الصغيرات من طائفة الروم الأرثوذكس، تأسست العام 1880. يعني عمرها يزيد نحو مرتين عن عمر استقلال لبنان. الأشرفية غنية بمدارسها. فهل هناك من لا يعرف مدرسة الحكمة في الأشرفية؟ وفريق كرة السلة، فريق البطولات في زمن القهر واليأس: الحكمة؟ وكم غنّى أهالي الأشرفية مع جنبات كثيرة كثيرة من لبنان: “حكمة قبل النوم وحكمة بعد النوم وحكمة كل دقيقة ودقي يا موسيقى”. ويومها كان “باشو” يدق على الطبل. في المدينة، مدينة القلب، أيضاً وأيضاً مدارس رسمية: ثانوية الأشرفية الأولى، مدرسة سلمى الصايغ، مدرسة لور مغيزل، متوسطة الأشرفية الرسمية… الأهالي يستدلون على الأمكنة من هذه الأسماء.
نتابع بحثاً عن ذاكرة الأشرفية في قلب الأشرفية. نتجه صوب مار متر. هنا كان حنا موسى، صاحب البوظة العالمية الأشهى، في محله العتيق. اليوم يتابع ولده متري المسار لكن من مكان آخر في الأشرفية. في نفس المسار كان فروج الـ “لا لا” الذي انتقل في حلة جديدة إلى مكان آخر ودائماً في الأشرفية. محلات “دفوني” الشهيرة لا تزال في مكانها. سطرت عائلة الفلوطي وآل ترانتيك بطولات في الأشرفية ذات يوم. وفي نفس الشارع مكتب “الفلوطي” لدفن الموتى. هو مشهور في الأشرفية، رثا كثيراً من أبنائها نحو المأوى الأخير. ومثله محل “توابيت دكران” في محلة الجعتاوي. وفي المقلب الآخر كانت حلويات ورد. وليس بعيداً عنها حلويات نورا ومرهج.
فريق السلام لكرة القدم كان أيضاً في الجوار. أشهر لحام كان على التباريس أبو نقولا. كان يعرفه كل الحيّ. وكان اللحام “عرنجي”. والخياط إسبر مجدلاني. وبائع الأقمشة يوسف كسرواني. والمجلخ والمبيض والشاعر والأديب و… سليم أبو رزق خياط الملوك والرؤساء ما زال موقعه موجوداً. ولا تزال طرابيش كبار رجالات الضيعة حاضرة في الأذهان. كانت تعبيراً عن الوقار.
محل ملك الفلافل فريحة يستمر حاضراً. ومثله فلافل صهيون الذي استعاد مقره- كما أيام العزّ- عند أطراف الأشرفية.
كثر من أهالي الأشرفية “العتيقين” ماتوا، لكن أولادهم يتابعون ما بدأوه. طقشي، صاحب محال القماش الشهير، رحل ويتابع ولده ما بدأه الوالد. أما ساندويش أبو الزوز في الجعتاوي فأقفل أبوابه (نرجو مؤقتاً) مع وفاة الوالد أبو الزوز وقبل شهرين “زوزو” وقبل شهر الوالدة. المزارات كثيرة في الأشرفية. نمشي مصلبين أيدينا على وجوهنا مرات ومرات. إنها من الضيع “المدينية” القليلة التي أبت التنازل عن البعد السوسيولوجي الذي فيها. فاستمرّ الحنين إليها حتى للأهالي الصامدين فيها. “الأشرفية هي الحياة التي لا تهدأ. بلا الأشرفية لا لبنان” تعلق ابنة المدينة سيلفانا الحصري.
نمر في شارع شكري العسيلي. نمر أمام حدائق مار متر والسيوفي واليسوعية فنفرح لهيصات أطفال ما زالوا يلهثون هرولة وراء طابة بدل الجلوس متسمرين مع هواتف ذكية وآيباد. نتجه نحو السوديكو وحي السراسقة والقصور الصامدة بين الأبراج الجديدة. هنا تاريخ المدينة ومستقبلها. الحجارة العتيقة الصامدة تزيد فينا الحنين. نتذكر عائلات سرسق وبسترس وتويني وطراد وفرنيني واسم الليدي كوكرن. نمر أمام وزارة الخارجية المعروف بقصر بسترس. نتجه نحو مبنى مطرانية الروم الأرثوذكس التاريخي. هناك نقرأ تاريخ من التاريخ.
إننا في الأشرفية. فلنبتسم. هناك من يصرّ على الترحيب بالقادمين: Bienvenue a Achrafieh. فلتبقَ الأشرفية ليبقى لبنان التاريخ والجغرافيا.