رياضة وتحدّي وانتحار و”انتصارات وهمية” في جنبات “صخرة الروشة”!


خاص 17 تشرين الأول, 2025

ثلاثة أسابيع على ذاك الخميس الذي تحدّى فيه “الحزب” الدولة. جُلنا هناك. تمشّينا. وقفنا قبالة الصخرة. الصمت كبير. بعض النسوة يلتقطن صورًا تذكاريةً للتاريخ وللسوشيال ميديا. البحر ساكن على نقيض الأفكار. هناك، قبالة الصخرة، راقبنا زوارق تعبر تقل سياحًا وأولاد البلد. علم لبناني صامد، شامخ، فوق الصخرة ولا شيء سواه. نعم، في النهاية لن يصمد إلّا لبنان وعلم لبنان ولا شيء آخر. ووحدها صورة الشهيد رفيق الحريري في الجوار ارتفعت مذيلةً بعبارة: “بالقلب كل سنة لتخلص الدني”. انتهت “همروجة” الصخرة فماذا عن السكينة التي أحاطت بها، ولحظات الفرح والعشق والانتحار و”الانتصارات الحقيقية” من “زمان وجاي”؟

كتبت نوال نصر لـ”هنا لبنان”:

تُعرف نظريًا باسم صخرة الروشة لكنّها، واقعيًا، صخرتَيْن لا واحدة وإن كنا نتكلّم عنها بصيغة المفرد لا المثنّى. يفقش الموج عند أقدامها مكوّنًا لوحات متناغمة ويغوص في جنباتها شباب يتلوّنون بسمرة شديدة. تخترق أجساد الفاصل الحديدي المشيّد حديثًا على رصيف المنارة البحري، وتعبر مشيًا في طرقات قدم “زيك زاك” صعبة نحو الشاطئ المحتضن عند ضفته صخرتَيْن عملاقتَيْن.

يُقال، في علم الجيولوجيا، إنّ زلازل ضربت في القرن الثالث عشر شاطئ بيروت، قضت على جزر ومخّضت صخورًا منها صخرة الروشة التي ترتفع أفقيًا نحو سبعين مترًا.

بائع علكة يفترش الأرض، وشاب “مكحّل العينين” يتكئ على دراجته الهوائية يسمع أغنية “Je T’aime” للمغنية لارا فابيان. يبدو متأثرًا جدًّا. نتركه لحاله ونمشي.

الدولة موجودة من خلال تحذير: ممنوع وقوف الدراجات النارية على الرصيف تحت طائلة الحجز. نضحك؟ نتذكّر ذاك الخميس ونضحك. الدولة هيبة. عناصر درك ينظمون محاضر ضبط بالسيارات المركونة بعشوائية، وعناصر شرطة حرس بيروت يساعدون على تسهيل ركون السيارات منعًا لازدحام السير. مشاهد تتكرّر على طول الكورنيش.

ما لنا وللمارة. نصوّب أعيننا باتجاه الصخرة. هنا كان مطعم “دبيبو” التاريخي. يُقال إنّ استقلال لبنان أُعدّ فيه. هنا التقى بشارة الخوري ورياض الصلح وصائب سلام ذات يوم. مات ثلاثتهم والمطعم هُجّر. نسأل جار المكان عن “التاريخ” الذي شهدته جنبات الصخرة فيخبرنا: “كان الطنبور يمشي على الطريق المحاذية. لاحقًا تحوّلت الطريق إلى خط سير واحد، ثم إلى خطّين. وكلّ الفنانين المصريين قصدوا المكان في سبعينيّات القرن الماضي. شوشو (حسن علاء الدين) كان يأتي ويجلس قبالة الصخرة ويكتب سيناريوهات مسرحياته. حسين فهمي، أنطوان كرباج، محمد هنادي، عصام كاريكا، سلطان أبو العينين، رشدي أباظة، نور الشريف وبوسي وآخرون طالما تردّدوا وتنفسوا وردّدوا: ‘قعدة بتسوا الدني'”.

ننظر إلى أعلى الصخرة. هنا تحدّى “حزب الله” الدولة والقانون، وهنا تحدّى الآلاف نعمة الحياة وانتحروا. كثيرون انتهوا هنا. عائلة عيتاني البيروتية بينها وبين الصخرة “عشرة عمر”. علي عيتاني وُلد من “بطن أمه” في صخرة حفرها والده بإزميله، في محاذاتها، واعتاد منذ وعى جاذبية المكان الصعود إلى قمّة الصخرة والقفز من فوقها إمّا “شك” على رأسه أو على قدميه. ترتفع الصخرة 47 مترًا. وكم تنافس شبّان على القفز من على قمّة صخرة الروشة لكن بيت عيتاني “هم الغالبون”. محمد عيتاني أدّى بدوره مشاهد في أفلام صوّرت في لبنان القفز من أعلى صخرة الروشة، بينها فيلم “عودة البطل” مع محمد المولى، وفيلم “نساء في خطر” مع فؤاد شرف الدين ومادونا وإبراهيم مرعشلي.

هنا، يتحدّثون عن وطاويط كثيرة في قلب الصخرة. سكان الجوار يتسلّون بالتقاط الوطاويط برشقها بقنينة زجاج مكسورة، والوطواط المُصاب يُباع دمه إلى من يرغب بمسح جسم مولودته به كي لا ينبت لها شعر.

للقفز من على صخرة الروشة أصول، لا يفقهها أولاد الجنوب والبقاع ولا محبّو السيد حسن الذين لم يتجرّأوا ذاك الخميس بالقفز. من هذه الأصول: يجب أن يكون ظهر من يريد القفز مشدودًا، وأن يقطع النفس، ويستقبل المياه بيديه ليحمي وجهه وصدره. بنات آل عيتاني اعتدنَ القفز هنَّ أيضًا لكن من صخرة محاذية أقلّ ارتفاعًا. سميرة تحدّت و”عربشت” إلى قمة الصخرة العالية وقفزت. فبماذا شعرت؟ تجيب: “شعرت بأنّ جلدي سُلخ عن جسمي. حين يطبش الجسم في المياه من هكذا علوّ، يشعر الإنسان بضربة قوية جدًا ونيران تتدفّق في كل أنحاء جسده”.

هنا كُتبت قصص حب وكراهية وموت وتحدّي وبداية ونهاية. المصوّر أبو سلمان يعيش من التقاط الصور للسياح. يقترب من المارّة طارحًا سؤالًا من كلمتَيْن: “بدَّك تتصوّر؟ بدِّك تتصوّري؟” يُمسك أبو سلمان عدسته منذ ثلاثين عامًا “متصيّدًا” الزبائن. وشتّان -في مهنته- بين الأمس واليوم. المارّة يتصوّرون بعدسة هاتفهم، لكن هناك من لا يزال يعرف أنّ المصوّر المحترف يأتي بصور تعجز عنها عدسات أهم الهواتف، ويقول: “هناك زاوية معيّنة قبالة الصخرة يساعد الوقوف عندها بالتقاط صور رائعة”. كلفة الصورة الواحدة الفورية بين 300 و400 ألف ليرة، والمصوّر مستعد دائمًا للمسايرة وتقاضي مئة ألف فقط لا غير: “فالشغل سيء، والسياح شبه نادرين، والناس أصبحوا أكثر بخلًا”.

الصخرة تآكلت عبر الزمن بفعل عوامل التعرية وبات اعتلاؤها أصعب بكثير من قبل. هناك تاريخ هنا. وهناك من يعتبر -كان وما زال- الصخرة ومحيطها: الجذور والانتماء والبيت والحضن والأمان. آل عيتاني من أبرز مَن شعروا -وما زالوا- بذلك. البحر يستمر ساكنًا لكن مرور الزوارق السياحية من حين إلى آخر يخفّف من حدّة السكون.

نتابع جولتنا. صف طويل من السيارات أكل أصحابها ضبط مخالفة سير. رجل مسنّ (84 عامًا) مُلقّب بأبي النون يفترش الرصيف المحاذي. هو سوري، تسكن بناته في صيدا ويمضي هو العمر جالسًا على كرتونة ويقول: “يمرّ ليلًا رجال تحرّي لكنهم باتوا يعرفونني ويعرفون أن لا مرقد لي إلّا الجامع”. يُمسك واحدةً من مجموعة المسابح والخواتم التي يبيعها ويخبر: “تسمى هذه المسبحة قنديل الليل لأنها تضيء في العتمة، وهذه المسبحة سمّيتها ‘الذهبية’ لأنها بلون الذهب، وتلك مصنوعة من العاج وهي إيرانية الصنع”. يقترب منه شاب سوري أيضًا حاملًا رغيف خبز وعلبة زيتون أرسلها له “فاعل خير”.

السوري أبو النون يتذكّر زوجاته اللبنانيات: الحجة وطفى من الضاحية، والحجة حنان منيمنة من البسطة، والحجة أمل عبد الله من بئر حسن… نقاطعه بسؤال: تزوّج مرات وليس له سكَن إلّا قبالة صخرة الروشة؟ يجيبنا بحلمٍ راوده ذات يوم: “ظهر عليّ شخص وقال لي: ستعيش حتى عمر 250 سنة. أخبرت ولدي بذلك واسمه الحوت لكثرة ما هو بخيل، فردّ: شو بدك تخربلنا بيتنا؟ زعلت منه. تحدّيته. قلت له سأحيا كما أشتهي وجئت أعيش بالقرب من صخرة الروشة. تحدّيته لكنني أعيش بالويل”.

تحدى أبو النون ولده، وها هو يفترش الرصيف بالقرب من صخرة الروشة. هناك من تحدّوا بعده -وربما قبله- محوّلين الصخرة من معلم سياحي إلى محطة انتحار.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us