سرّ العلاقة بين الموارنة والكرسي الرسولي في الفاتيكان!


خاص 15 تشرين الثانى, 2025

اليوم، ونحن ننتظر، على قارعة التطوّرات الكثيرة المُحدقة بنا، زيارة البابا لاوون الرابع عشر، إلى لبنان –إلى لبناننا الموصوف بالرسالة– نفرح بأنّنا نستمرّ في قلب الله. فمنه، من الله، استمددنا طويلًا الصمود والقدرة على البقاء في جغرافيا مثقلةٍ بالألغام، والفاتيكان يدرك ذلك. الأيام تمرّ بسرعة، والعمر كذلك، لكنَّ هناك أيامًا وأحداثًا تستحقّ أن تُحدّد نواة المستقبل وتصبح مرجعًا. فها هو البابا لاوون الرابع عشر يزورنا ما بين الثلاثين من تشرين الثاني هذا والثاني من كانون الأول المقبل. ثلاثة أيام في ربوعنا. فماذا ننتظر منها؟ الثابتُ أنّ اللبنانيين عمومًا -والمسيحيين بالأخصّ– ممّن عايشوا تلك الأيام المجيدة من العام 1997 يشعرون بغبطة، بنعمة، بسعادة. فأهلًا وسهلًا بالآتي مُلتحفًا ببياض السلام ومُمسكًا بعصا الرعوية ذات المقبض الذي يعلوه الصليب. باسم الصليب ولبنان والمستقبل والصمود والسلام دعونا نراجِع معًا تاريخ الفاتيكان مع لبناننا المتألّم وموارنة لبنان الصامدين، ونحن المدركون أنّ أقوى المحاربين هما الصبر والوقت، والإيمان بأنّ الآتي لا بُدّ أفضل.

كتبت نوال نصر لـ”هنا لبنان”:

مع وصول البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان، يكون عدد الباباوات الذين وطئوا أرض لبنان أربعة: البابا بولس السادس الذي أتى عام 1964 في زيارةٍ سريعةٍ خاطفةٍ، تلاه البابا يوحنا بولس الثاني الذي أتى في زيارة رسمية عام 1997، ثم البابا بنديكتوس السادس عشر الذي زارنا رسميًا عام 2012، وها هو البابا لاوون الرابع عشر سيكون الرابع الآتي إلى ربوعنا. والسؤال: ما هو السرّ الذي يجمع الموارنة في لبنان مع الكرسي الرسولي في الفاتيكان؟

قبل اليوم بكثير، في العام 1510، أرسل البابا لاوون العاشر بيانًا رسوليًا إلى البطريرك الماروني بطرس الحدثي، استهلّه بتقديم شكر خاص للعناية الإلهية التي استمرت في رعاية الشعب الماروني في أحلك الظروف. هذا “الشعب المزروع بين أهل الكفر والانشقاق والأخطاء” كما وصفه، و”هذه الرعاية ستحفظه زاهرًا في بيئته كالسّوسنة بين الشوك”. هي العناية الإلهية إذًا التي تُبقينا وستُبقينا أقوياء كالسوسنة بين الشوك.

“في البدء كانت الكلمة، وكلّ شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء ممّا كان”. ودارت الحياة دورتها، وُجد يوحنا مارون الناسك، وعلى اسمه وُجدت المارونية في لبنان. وحصل ما حصل. وانطلق الرباط الوثيق المستمرّ بين الموارنة وروما عام 1215 يوم سمّى البابا إنوسنت الثالث أرميا العمشيتي بطريركًا لأنطاكيا وسائر المشرق على الأمّة المارونية. وفي العام 1231، بعد رحيل العمشيتي، اختلف رجال الدين الموارنة حول تسمية بطريركهم الجديد، فتدخّل الفاتيكان وسُمّي دانيال الشاماتي بطريركًا جديدًا. وفي العام 1584، افتُتحت مدرسة مارونية في روما وبدأ تقليد تعيين سفير للفاتيكان في لبنان والمشرق. تاريخ طويل مجيد. أصبح لبنان كبيرًا، نال استقلاله، وسُمّي شارل حلو مفوّضًا ثم سفيرًا له في الفاتيكان. ويوم مرّ البابا بولس السادس مرورًا سريعًا في لبنان عام 1964، أعلن أهمّية هذا الوطن كنموذجٍ للتعايش السلمي. ومنذ ذاك الحين، نال لبنان اهتمامًا خاصًا في دوائر الفاتيكان. ويوم طُوِّبَ شربل مخلوف قديسًا خاطب البابا بولس البطريرك الماروني بطرس خريش قائلًا “إن كنيستكم هي مجد لبنان”.

هكذا، نشأت العلاقات الدبلوماسية بين لبنان والفاتيكان في تشرين الثاني عام 1946 بتعيين شارل حلو سفيرًا له لدى الكرسي الرسولي، في حين أنّ السفير الفاتيكاني في لبنان كان دائمًا أسقفًا وكاردينالًا يُسمّى بالقاصد الرسولي، عميد السلك الدبلوماسي، متقدّمًا على سائر السفراء الآخرين.

كان الودّ دائمًا بين لبنان والفاتيكان، لم يتخلّله أي توتّرٍ إلا مرة واحدة عام 2017، يوم عُيّن السفير جوني إبراهيم سفيرًا للبنان في الفاتيكان، فأبلغ البابا فرنسيس لبنان بعدم قبول ترشيحه بسبب علاقته بالماسونية. تفاصيل كثيرة تمّت، لكن في غالبيتها احتلّ لبنان مكانةً مميزةً لدى الفاتيكان كبلدٍ فريدٍ لما يحمله من تنوّع حضاري وثقافي جعله “المميز” لدى حاضرة الفاتيكان. إنّه “وطن الرسالة” كما سمّاه البابا الاستثنائي يوحنا بولس الثاني.

نتذكّر اليوم، أكثر من أي يوم، تلك الزيارة التي قام بها البابا يوحنا بولس الثاني إلى لبنان. تلك الزيارة التي تأخّرت عن موعدها بسبب الوضع الأمني الذي ساد بعد تفجير سيدة النجاة في شباط عام 1994. تأخرت تلك الزيارة بعد أن حُمّل المسيحيون شمّاعة أحداثٍ أمنيةٍ أُلصقت بهم عنوة، لكنّها عادت وتمّت. ويوم حصلت، هاجت وماجت البلاد بثورة بيضاء روحية وبالكثير الكثير من الصلوات من قلب القلب. المسيحيون كانوا في أسوأ حالاتهم: مقهورين، مهزومين، مظلومين. وأتى البابا ومشى على الأرض التي مشى عليها السيد المسيح. ولحظة أطلّ من مقام السيدة العذراء في حريصا هلّل الشباب والشابات. رأوا به حبل النجاة وبارقة أمل لم يخمد بعد. وهذا ما كان. البابا كان يعرف حال المسيحيين، والفاتيكان دائمًا يعرف هذا الرّباط القوي المتين بينه وبين موارنة لبنان ومسيحييه.

فلنعد إلى ما قبل الاستقلال اللبناني وتكوين لبنان الكبير. كيف كانت العلاقات بين هنا وهناك؟

اعتبارًا من بداية القرن الخامس عشر، أصبح لقداسة البابا ممثل مقيم لدى الموارنة. فبدأت روما تُشرف مباشرةً على كتب الموارنة الدينية بعدما سمعت أنّ فيها بعض التعاليم الدخيلة، فأرسل البطريرك يوحنا الجاجي فرا جوان الذي عاش فترة في قنّوبين، وحضر باسم البطريرك المجمع الفلورنتيني، الذي هدف إلى توحيد الكنيستَيْن الشرقية والغربية. ذهب مزوّدًا برسالة بطريركية قدمها إلى البابا وعاد بدرع التثبيت وبقرار من البابا برعاية الموارنة والاتّكال عليهم. لكن حدثت مسائل كثيرة وفشلت نوايا التوحيد. في العام 1513، أرسل البطريرك سمعان الحدثي موفدًا إلى البابا لاوون العاشر طالبًا براءة التثبيت، فردّ البابا طالبًا إفادته عن معتقد الموارنة بعد تلقّيه معلومات أنّهم من دعاة الطبيعة الواحدة. فردّ عليه البطريرك شارحًا وأرسل له براءات التثبيت التي نالها البطاركة الذين سبقوه، فردّ عليه البابا برسالة شبّه فيها الموارنة “بالوردة بين الشوك”.

محطات كثيرة، وصولًا إلى العام 1054 يوم حصل الانشقاق بين كنيسة روما والكنيسة البيزنطية. وفي العام 1099، وصلت أولى الحملات الصليبية إلى لبنان في طريقها نحو القدس… رومان وبيزنطيون ومماليك وصليبيون وعثمانيون مرّوا من هنا، وبقي لبنان، وبقي موارنة لبنان لصيقين بروما. لكن، هل بقيت الكنيسة المارونية مدلّلةً لدى الفاتيكان؟ الثّابت أن الفاتيكان استمرّ حاضرًا في أيامنا الصعبة. ألا تتذكرون “لقاء الفاتيكان” الذي عقده البابا فرنسيس مع رؤساء الطوائف المسيحية في لبنان من الكنيستَيْن الشرقية والغربية، وتمثّل بيوم “التأمل والصلاة من أجل لبنان”؟ هكذا هو الفاتيكان، حاضر كلّما شعر موارنة لبنان بالقلق والخطر وباهتزاز الكيان والوجود. في كلّ مرة كانت حلول الأرض تختفي كنّا نترك الأمر للسماء، وكان الفاتيكان معبرًا بين الأرض والسماء.

ها هو تمثال القديس مارون ينتصب في باحة الفاتيكان، في عاصمة الكثلكة في روما، إلى جانب تماثيل القديسين الأبرار. وها هم اللبنانيون الموارنة، أولاد مارون، يتجاوزون القطوع تلو القطوع، وفي كلّ مرة يثقون أكثر بقوّة المسامحة، بقول إلهنا يسوع المسيح: فإن تغفروا للناس زلّاتهم يغفر لكم أبوكم السماوي. نعم، يتجاوزون كلّ ما قهرهم – ويقهرهم – على الأرض متمسكين بوجوب أن يحملوا رسالة المحبة.

اليوم، نستعيد كلّ التاريخ بين لبنان والفاتيكان، وفي كله لم يطلب الفاتيكان يومًا أيّ مقابل لقاء دعم لبنان. وكلّما اشتدت أزمات لبنان وُلد لنا قديس. قديسو لبنان والمطوّبون، باسمهم يصمد الموارنة، ومن خصالهم يتعلمون. ما يُطمئِنهم هو ما يقصده البابوات: “لا تخافوا، فنحن لا ولن ننساكم”. لبنان صغير في المساحة لكنّه كبير عظيم في الوجود. تجتمع فيه الأديان السماوية الثلاثة. يؤكّد باباوات روما دائمًا أنّ لبنان يمثّل نموذجًا فريدًا للتعايش في العالم. وهو آخر موقع مسيحي بارز في هذا الشرق.

زيارة البابا لاوون الرابع عشر آخر هذا الشهر ليست تفصيلًا، بل تأكيد أنّ لبنان كان ويستمرّ النقطة المحورية في إرساء السلام والمحبة والتلاقي في كلّ المحيط. فلبنان هو الرسالة التي رُسمت جغرافيًّا وتُكتب بحبر القلب. فأهلًا وسهلًا ببابا روما في ربوع لبناننا.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us