كلمات “البابا” وصيّة… ابقوا شجعانًا كما كنتم دائماً!


خاص 3 كانون الأول, 2025

وتحققت زيارة قداسة البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان. أتى وغادر. وغادر ليس كما أتى. كان يسمع عن لبنان لكنه عاشه فبرقت عيناه مراراً. ابتسم كثيراً. كسر البروتوكول. وبارك الجموع. أقل من خمسين ساعة، ثلاثة أيام، ليلتان، وأجندة مكثفة انتشلتنا من تحت الأرض إلى حدّ السماوات. لسنا نبالغ. إسألوا الشبيبة. إسألوا الأطفال والعجزة والقلوب التي فاضت بالرجاء عن زيارة البابا وستسمعون. هناك، في المقابل، من يطلق النكات السلبية من نوع: “إنتهت السكرة وأتت الفكرة”؟ راح البابا وستأتي الماما؟ راح الحبر الأعظم والآتي أعظم؟”..
مهلكم! نحن ممتلئون الآن بفرحِ اللقاء، ونعرف أننا لا ننام على حرير، لكننا كنا بحاجة إلى حضور قداسته لنسترجع الدينامية ونستمد الصبر. فماذا عن الأيام المنصرمة؟ وماذا عن الأيام الآتية؟

كتبت نوال نصر لـ”هنا لبنان”:

كم ضجّ لبنان، في خمسين ساعة، بكلمة السلام. السلام عليكم، معكم، لكم. رُددت الكلمة من قلب القلب، منذ أطلّ قداسة البابا ملتحفاً بأبيضِ السلام، إلى أن غادر، ملتفتاً- قبل عبوره باب الطائرة- إلى سماء لبنان، مباركاً الأرض التي لا تُشبه سواها قائلاً: “المغادرة نعم أصعب.أعانق الجميع وأغادر”.
ثلاثة أيام بدأت بكلمة وانتهت بكلمة: كونوا علامة سلام في كلِ مكان، وثقوا أن لبنان لن يكون إلا على مثال شربل الناسك، وشبيبة لبنان الذين يفيضون رجاءً ودينامية، ومن بقي من ذوي المعدن الطيّب من المؤمنين. رحيقنا طيب وإن كانت مسيرتنا صعبة.
فلنبدأ من الآخر، من حيث بدأ وحيث غادر، من مطار بيروت. لم يكن سهلاً علينا وداعه. أحببناه. بصراحة، بلا لفّ ودوران، لم نكنّ له يوم جاء نفس المشاعر. لكن، في عينيه، في البؤبؤ، رأينا ما تمنيناه. رجلٌ إستثنائي مليء بالحبّ أتانا في وقت إستثنائي تتغيّر فيه كل المنطقة. ودعناه وكلّنا إيمان بأننا لسنا وحدنا. ثمة علامة من السماء حلّت بيننا ومنحتنا بركات الربّ علينا جميعاً.
قبل ان يغادر، صلينا معه. إنتظرناه منذ الفجر. كراس بيضاء إصطفّت. شبيبة الصليب الأحمر وكاريتاس لبنان وكشافة لبنان وجيش من الكهنة وعناصر السلام أتوا من الجنوب ليصلوا للسلام مع قداسة البابا. وجموعٌ كثيرة. وفرحٌ خلنا أننا فقدناه. كبارُ الشخصيات خصصت لهم أماكن قبالة المذبح. وزراء ووزراء سابقون. نواب ونواب سابقون. سفراء. وما يسمون زعماء وقادة. الرؤساء الثلاثة في المقدمة. وكثير من الضحكات جمعت ما بين الرئيسين الأول والثاني جوزاف عون ونبيه بري. بدا الرجلان كالسمن والعسل. باصات وصلت من المناطق والرعايا. وأعلام لبنانية وفاتيكانية وقبعات وزعت. وقناني المياه وزعت بكرمٍ. كلّ شيء منسق لوصول قداسة البابا. ولحظة نقلت الشاشات العملاقة الموزعة في الأرجاء وصوله الى مرفأ بيروت، حيث المكان الذي فجره “مجهول” حتى إشعار آخر بناسٍ طيبين ساد في الساحة صمت عميق. “إرموا الإبرة تسمعون رنينها”. كل العيون جحظت نحو تلك العيون التي لم تنشف منذ خمسة أعوام. منذ تشلعت اجزاء مئتي وأربعين شخصاً من الأبرياء. يا الله كم لا يزال المشهد موجعاً. وتردد بين الجموع: وين الحقيقة؟ وين العدالة؟ نعم، أين العدالة إلى هؤلاء وإلى كل من صلوا ناشدين بركات السماء.
وصل قداسته. صلى. صلينا معه. وتليت صلوات بالفرنسية والإنكليزية والأرمنية والسريانية والعربية. تليت الأبانا والسلام. ورتل الجموع: “ربّ الكون، ربّ الجود، حرّك أوتاري وهبّ لي من تعليم الروح نسمة، في أفياء عرش الأنوار أشدو المجد بين الأبرار”,
غابت المسيرات الإسرائيلية. وحدها همسات الحبّ سرت. كنا في مساحة، مسافة، بين ما يكتبه أهل الأرض، المتصارعون، وما تكتبه السماء. وأصوات السماء كانت أقوى. سلامٌ لكم. قالها قداسته وصرخنا: سلام سلام وسلام. والسلام، أخبرنا، ليس شيئاً مستحيل إذا عملنا من أجله. فلنعمل. فلننهض معاً ونعمل من أجل السلام. قال لنا “قوموا، إنهضوا، قم وانهض يا لبنان وكن نبوءة سلام في هذا المشرق، وبيتاً للعدالة والأخوة في هذا الشرق كونوا أيها المسيحيون في هذا الشرق شجعاناَ. الكنيسة معجبة بكم”.
يا لها من لحظات ومشاعر وفرح ورجاء.
قبل القداس الكبير، زار قداسته دير الصليب. وهناك، كان وقتاً آخر إستثنائياً بين أشخاص لا يطلبون من هذه الدنيا إلا رحمات السماء. وسمع هتافاً: يا بابا ساعدنا يتقدس الأب يعقوب. إقترب وصافح وقبّل الصغار والكبار. كان رسول يسوع بين الجموع. ولمس جرح مقهور، عاجز، معوق، على هذه الأرض كلمسِ جرح المسيح في التاريخ. هو بابا إحترف بثّ الحبّ بيننا في ثلاثة أيام. هو حبّ يكفينا لنصمد ونصبر بعد وبعد وبعد.
ثلاثة أيام مرّت كما الحلم. ثلاثة أيام تذكرنا فيها أن النجاح لا يتطلب عذراً كما أن الفشل لا يترك مبررات. فليعمل من يسمون أنفسهم رؤساء لنا من أجل أن ينجحوا بإعادة البلد الى مصاف وطن. ولا عذر لهم في إرجاء تحقيق ذلك. في كلِ محطة حلّ فيها كانت رسالة. في القصر الجمهوري، في أول ساعة نزل فيها في لبنان. هناك، في القصر، قال لنا: نحن، جميعاً، تلاميذ من اوصانا أن لا نخاف. وتوجه إلينا، كلبنانيين، مردداً: أنتم شعب لا يستسلم. نعم، نحن لم ولن نستسلم. لكننا يا بابا كنا خائفين من أن نكون “كبش محرقة” هذا المشرق. وأنت طمأنتنا. ومنحتنا زاداً متيناً، قوياً، وطاقة لأيامٍ ليست سهلة تتربص بنا.
زيارة قداسته الى عنايا كان لها معنى خاص. في حضرة القديس الناسك شربل ركع قداسته ولمعت عيناه. وتأكدنا من جديد أن البلد الذي خرج منه قديس بحجمِ شربل لا يهرب. فالهروب استسهال وشربل كان يملك من قوة وشجاعة البصيرة ما جعله نور العالم. ومنذ البدء أدركنا أن هذه الزيارة ستغيّر شيئاً، لا بل كلّ شيء. فنحن، كلبنانيين عموماً، وكمسيحيين، قادرون على إحداث التغيير الذي ننشده. فالقديس شربل الذي نذر الفقر والطاعة والنسك والعفة إنقلب على مفاهيم كثيرة وبدّل. ونحن أولاد هذه الأرض التي أعطت مار شربل. فلننقلب على ما يُكتب لنا ولنحفر مستقبلنا بأيدينا. فلنتعلم كيف نعيش حياة إبن بقاع عكفرا شربل مخلوف.
في كلِ محطة، فرح. لا، لا، كثير كثير من الفرح والرجاء. شهدنا إلتقاء رجال الدين. هناك من اعتبر مثل هذا النوع من اللقاءات تكاذب وفولكلور. لكن، فلنلتقِ ونحكي عن التعايش- التكاذب ولنفكر معاً في بناء العيش المشترك في جغرافيا رصيدها تنوعها وغناها قدرة أهلها على تحويل الخلاف الى اختلاف يُبنى عليه. فلماذا لا نكون، كما العباقرة، الذين يسعون لمنع الخلافات قبل أن تستفحل وتتحول الى رفضٍ وثأرٍ واقتتال؟ لدينا فرصة. فلنستفد منها.
بربكم، ألم تشاهدوا لقاء قداسته مع الشبيبة؟ هزّنا مشهد عشرات آلاف الشبيبة من أعماقنا. أتوا بكلّ ديناميتهم ورجائهم ليخبروا الجميع أنهم ما زالوا هنا. فلنراهن عليهم بدل أن يطلّ من يراهن على تناقص أرقامهم. رقصوا. غنوا. رتلوا. ومعهم خفقت قلوبنا كثيراً.
زغاريد، ورود، صلوات، تراتيل، وسلام وكثير كثير من السلام. شجرة الزيتون، رمز السلام والنقاء والبركة الإلهية، حضرت. زرع منها البابا إثنتين وسقاهما. فرحنا كثيراً بزيارة البابا لاوون الرابع عشر. أتى وغادر. إمتلأنا رجاء. لكن، هذا لم يمنعنا من السؤال منذ أقلعت طائرته من مطار بيروت: الى أين؟ هو غادر الى الفاتيكان أما نحن فمتى نقلع الى رحاب الأمن والأمان؟ رؤساؤنا تنفسوا عميقاً. نجحت الزيارة وعاد كلّ واحد منهم الى عرينه. فهل سينسون ما أوصى به قداسة البابا؟ هل سيتوقفون عن الحسابات الضيقة ويضعون لبنان وأهله في أوّل حساباتهم؟ فلتذكر هؤلاء أن اللبنانيين وشبيبتنا، صورة لبنان الجميلة، سيبقون في قلب البابا. وعلى هؤلاء، على من يُمسكون بأمورهم كي لا نقول رقابهم، أن يسرعوا بتغيير الواقع الأسود. انتهت الإحتفالات. إنتهت الزيارة التاريخية. فلتترجم معانيها الآن الآن.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us