المصابون بـ”جنون العظمة” يغرقون لبنان بـ”مستنقع” الأمراض النفسية


أخبار بارزة, خاص 22 كانون الثاني, 2022

كتبت بشرى الوجه لـ “هنا لبنان” :

عانى اللبنانيون، وما زالوا، من صدمات متتالية خلال السنتين الماضيتين، بدءًا من أزمة ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية وكلّ التبعات والأزمات التي ترتّبت عنها، مروراً بالضغوط الناجمة عن تفشي جائحة فيروس كورونا، وصولاً إلى انفجار الرابع من آب الذي تسبّب بمقتل وجرح وتشريد الآلاف.

هذه الكوارث المتعدّدة تسبّبت بضغوط كبيرة على اللبنانيين أضرّت بصحتهم النفسية، رغم أنّهم اعتادوا على حالات الاختلال والارتباك في بلدهم جرّاء اضطرابات الحروب والأزمات السياسية التي عانوا منها على مرّ تاريخ لبنان، والتي لطالما أثّرت على سلامتهم النفسية، إلّا أنّ موضوع الصحة النفسية في بلدٍ كلبنان هو مُهمل، فـ “وصمة العار” حول الاضطرابات النفسية وغياب المعرفة والوعي، وارتفاع تكلفة العلاجات وغياب الجهات الضامنة تمنع الكثيرين من تلقّي العلاج المناسب لمشاكلهم النفسية.

“الإكتئاب في لبنان تفاقم كثيرًا.. هذا ما نلمسه في عياداتنا”، يقول الطبيب النفسي وائل كرمه لـ “هنا لبنان”، “فالأحداث الثلاثة الأليمة تركت بعمق أثرًا سلبيًّا في نفسية المواطنين، خصوصًا أنّها لا تزال مستمرة، فمثلًا الأزمة الإقتصادية طال أمدها ولا حلول لها بعد، بل على العكس هي تزداد تعقيدًا، وهذا يؤدي إلى اكتئاب وقلق على المصير المجهول لدى الكثير من المواطنين”، أمّا بالنسبة لانفجار مرفأ بيروت “فكثير ممن تأثروا من الانفجار باتوا يعانون مما يسمّى بـ “الاضطراب ما بعد الصدمة”، وهو اضطراب القلق المرهق الذي يحدث بعد التعرض لحدث صادم أو مشاهدته.

ويتابع: “القلق والتوتر هما في ازدياد جراء انتشار وباء كورونا، فضلاً عن الاكتئاب والمشاكل الاجتماعية المتعلقة بالبطالة وانخفاض القدرة الشرائية والمشاكل الزوجية والعنف المنزلي، واستعمال الكحول والمهدئات والمخدرات، كل ذلك يفاقم حالات الإدمان، ويؤثر في صحة الأفراد النفسية لتصل بالبعض للإقدام على الإنتحار”.

العلاج بـ”الدولار الفريش”؟

ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة الذي أدّى إلى ارتفاع تكلفة العلاج النفسي، دفع بالعديد من الأشخاص إلى إيقاف علاجهم، أو اللجوء إلى العيادات التي تقدّم استشارات وعلاجات مجانية.

في هذا السياق، يوضح الطبيب كرامه أنّ “تكلفة جلسة العلاج النفسي هي في الأصل أعلى من كلفة العلاجات الأخرى، فهي قبل الأزمة الإقتصادية كانت مقابل 100$ أو 150$، حسب كل طبيب، لكنّها اليوم أصبحت تتراوح بين الـ400 ألف لبنانية والمليون، وقد يطلب بعض الأطباء أكثر بكثير، لتصل الجلسة الواحدة إلى 270 دولار”، مشيرًا إلى أنّ “بعض الأطباء يأخدون القدرة المادّية لمرضاهم بعين الإعتبار ويخفضون كلفة الجلسة”.

ويعتبر كرامه أنّ كلفة الإستشارة النفسية “شيء لا يُذكر” مقارنةً مع نتائجها في تغيير حياة الناس نحو الأفضل، ومع الوقت الطويل لجلسات العلاج”.

من جهتها، تقول الطبيبة النفسية في منظمة “إمبرايس” للصحة النفسية في لبنان، ميريام زرزور لـ “هنا لبنان”: “الطب والعلاج النفسي هو في الأساس غالٍ لأن الجهات الضامنة لا تُغطيه، واليوم الكلفة تضاعفت، لذلك لم يعد بمقدور الكثير تحمّل مبالغه. أمّا “التسعيرات” فتختلف بين طبيب وآخر، فالكل يُسعّر “على ذوقه” والبعض يطلب أن يكون الدفع بالدولار الفريش”.

تضيف: “ارتفاع التكلفة بهذا الشكل أدّى إلى تزايد أعداد من يلجأون إلينا كمنظمة كوننا نقدّم علاجاً مجانياً لجميع اللبنانيين والمقيمين، والكثير ممن أتوا إلينا كانوا يتعالجون في العيادات في الخارج ولم يعُد بمقدروهم تحمّل أعباء التكاليف”.

وتلفت زرزور إلى أنّ عيادة “إمبرايس” قدّمت 5505 استشارة من أيلول 2020 إلى أيلول 2021، أي بمعدّل 449 استشارة في الشهر، وذلك لحوالي 590 شخص، واليوم لدينا لائحة انتظار طويلة”، مشيرةً إلى أنّ العيادة تضمّ طبيبتين وثلاث معالجين نفسيين، بالإضافة إلى أحد عشر متمرّنًا.

وبالنسبة للأدوية التي يحتاجها المريض، تلفت زرزور إلى أنّ “إمبرايس” تتعاقد مع عدد من الصيدليات لتغطية تكلفة الأدوية النفسية التي يصفها أطباء المنظمة النفسيون.

تجارب ومعاناة..

تسرد ريما (27 عاماً) لـ “هنا لبنان” المعاناة التي تعيشها منذ سنتين، “أختلق أسباب الحزن في أكثر لحظات السعادة. أبتعد عن الأقارب والأصدقاء ودائمًا ما أشعر بأنّي لا أريد رؤية أحد.. لم يفرض عليّ أحد الوحدة، أنا من يختارها.. كل ما أفعله هو القراءة والكتابة”.

تكمل ريما حديثها: “عندما وجدت أنّ المشاعر والأفكار السلبية باتت تهلكني وتأخذني من الحياة تمامًا، قررت اللجوء إلى الطبيب النفسي، لكنّي وجدت أن البدل المادّي لقاء الجلسة الواحدة هو 800 ألف ليرة لبنانية، وهذه التكلفة سوف تُهلكني أيضًا، لذلك قررت العودة عن فكرة العلاج، وربّما لاحقًا قد أبحث عن منظمة تقدّم الخدمات العلاجية مجانًا”.

ولأنّ لبنان بات عبارة عن مجموعة أزمات متداخلة لن “يزمط” منها أحد، يواجه هيثم (45 عامًا) صعوبات من نوع آخر، فهو يُعاني من اكتئاب واضطرابات في النوم ويحتاج إلى دوائه “المقطوع”.

يقول هيثم لـ “هنا لبنان”: “أبحث عن دوائي منذ أسبوع، فتّشت عنه في صيدليات عديدة في مناطق مختلفة ولم أجده في أي منها، كذلك شاركني طبيبي “عملية البحث” ولم يجده”، يضيف: “أشعر بالتعب والقلق المستمر وأحتاج تناول الدواء”.

وحول مخاطر الإنقطاع عن تناول أدوية الإضطرابات النفسية، يقول كرامه “اليوم الأدوية إمّا مقطوعة وإمّا أسعارها ارتفعت فوق القدرة الشرائية للكثير من الناس، والأمراض النفسية تؤثر على الصحة الجسدية للفرد، كما أنّها يمكن أن تؤدّي به إلى أذيّة نفسه والمجتمع معًا.. فمثلًا إذا توقّف الشخص الذي يُعاني من مرض ثنائي القطب عن تناول أدويته فقد يُشكل خطرًا على المجتمع، فهو قد يقوم بجريمة قتل”.

ما الحل؟

يجب التعامل مع الأمراض النفسية كغيرها من الأمراض، كما يجب اعتبار بعضها كالأمراض العضويّة المستعصية، يقول كرامه، مؤكّدًا على ضرورة الإعتراف بالمرض النفسي كـ “وجع” وأن يغطّي الضمان الاجتماعي وشركات التأمين تكلفة علاجه.

ويضيف: “يجب أيضًا تجديد القوانين في البرلمان، فالمريض النفسي الذي يرفض تلقي العلاج يجب إجباره عليه من قبل القوى الأمنية”.

أمّا على الصعيد الفردي، فيقدّم كرامه بعض النصائح البسيطة التي قد تُساعد اللبنانيين في الحفاظ على صحتهم النفسية في ظل هذه الظروف العصيبة: أولًا، تناول الغذاء الصحي السليم واتّباع حمية البحر الأبيض المتوسط التي تعتمد بشكل أساسي على الخضراوات والفواكه والمكسرات والبقوليات والحبوب الكاملة. ثانيًا، ممارسة الرياضة الفردية والجماعية. ثالثًا، عدم الدخول في متاهات الإنفلاش الإجتماعي وتجنّب الأحاديث التي تجلب الطاقة والمشاعر السلبية. رابعًا، تحديد الأوليات والتوقّف عن التفكير الزائد بالعمل والأمور الحياتية. خامسًا، الجلوس والتأمل في الطبيعة وممارسة الهوايات الصحية المفيدة.

إذًا، الصحة النفسية للبنانيين تدخل في دوّامة خطيرة، فمن لديه “شجاعة” اللجوء إلى طبيب نفسي، قد يصطدم بمشكلة ارتفاع التكاليف، ومن يملك القدرة الماديّة قد تواجهه “عقبة” انقطاع الأدوية، ليتحوّل لبنان الذي يتحكّم به من يعانون من “جنون العظمة” إلى مستنقع للأمراض النفسية والآفات الإجتماعية.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us