الجمهوريّة الثالثة، حلمٌ ليس بالمستحيل


كتب أنطوني الغبيرة لـ “هنا لبنان” :

أرادوه لبناناً كبيراً، رغم صغر مساحته فكان لهم ما تمنّوه لكنّهم لم يعلموا أنّ لبنانهم الكبير اختلفت صفاته. فلم تعد الدولة متربّعة على عرشه ولم يعد القانون سائداً على الجميع، فتحوّل لبنان المفكّرين والفلاسفة والرقيّ والفنّ ذاك الوطن الكبير بدستوره وطبيعته وشعبه، إلى لبنان الفاسدين والظالمين، لبنان الفساد في ظلّ غياب الدولة، لبنان المنظومة السياسيّة التي أكلت لحم شعبٍ أوصلها إلى الحكم فسرقته.
رغم أنّ متصرفيّة جبل لبنان التي كانت مستقلّة ذاتياً رغم وقوعها تحت الحكم العثمانيّ، أصبحت في العام 1920 ضمن الأراضي المُنتدبة من قِبل الدولة الفرنسيّة بعد خسارة الإمبراطوريّة العثمانيّة وانتهاء الحرب العالميّة الأولى وتغيّر اسمها ليصبح دولة لبنان الكبير. لكن ما قبل 23 أيار 1926 لم يكن كما بعده مع ولادة أوّل دستور للبنان، هو المستوحى من مسوّدة دستور الجمهوريّة الفرنسيّة الثالثة، ومع الدستور الجديد بدأ حلم الجمهوريّة اللّبنانيّة الأولى وبدأت مرحلة النضال نحو الاستقلال عن الدولة الفرنسيّة. فإلى أي مدى تساهم الحروب والإنتفاضات اللّبنانيّة بتعديل الدستور، وتُؤسس لجمهوريّة جديدة؟

بعد نيل الجمهوريّة اللّبنانيّة استقلالها في العام 1943 وجلاء آخر عسكريّ فرنسي عن الأراضي اللّبنانيّة في 17/4/1946 قام رجال الاستقلال في حينها باتفاقٍ شفهي عُرف بالعرف الدستوريّ كونه غير مكتوب، تقاسمت فيه الطوائف السلطة وتوزّعت المقاعد على الشكل التالي: رئاسة الجمهوريّة للموارنة ورئاسة مجلس الوزراء للسنّة بالإضافة إلى إعطاء الشيعة رئاسة مجلس النواب…
بعد الحرب الأهليّة الطاحنة وحرب التحرير، أصبح جزء من هذا العرف، دستوراً مكتوباً من خلال اتفاق الطائف أو وثيقة الوفاق الوطنيّ عام 1989 التي أنهت الحرب وكرّست المناصفة الدستوريّة بين المسلمين والمسيحيّين. ومع هذا التعديل الدستوريّ، أصبح لبنان يعيش ضمن الجمهوريّة الثانية.
ومع بداية الجمهورية الثانية زادت الغطرسة السياسيّة التي تعززت من خلال منظومة فاشلة، أوصلت البلد إلى انفجار اجتماعيّ غير مسبوق فالنسيج الاجتماعيّ في لبنان لا يشبه أي بلد آخر، والثمانية عشر مذهبًا الموجودة في لبنان غير موجودة في فرنسا. إذاً دستور لبنان المأخوذ بأفكاره ونظامه وعقيدته من الفرنسيين، من الصعب جداً عليه أن يلبّي حاجة المجتمع اللّبنانيّ الطائفيّ المركّب.
وبعد الاحتقان السياسيّ الذي أثمر نقدًا للنظام، بدأت الانتفاضات الشعبيّة مع ثورة الأرز الّتي صرخ من خلالها كلّ لبنانيّ بوجه الخارج تشبّثاً بعقائده وحبّاً لأرضه. لكنّ الإنقسام العموديّ الذي كان بين مكوّنات السياسة اللّبنانيّة 8 و14 آذار 2005، تبدّل بعد حين مع التحالفات السياسيّة.
الانتفاضة الثانيّة التي هزّت الكيان اللّبنانيّ كانت مساء 17 تشرين الأول 2019 حيث قُلبت الطاولة هذه المرّة لكن من زاويةٍ مختلفة، فلم تكن السياسة السبب بل وجع الشعب الخائب أصبح أكبر من السكوت عن فساد المنظومة السياسيّة المهترئة؛ وعبّرت الثورة عن الوجع، أمام أصنام السلطة النائمين. هم الّذين لم يستطيعوا مجابهة ومواجهة هذا الوجع العميق، هربوا وتلطوا خلف تبريراتٍ، استقالاتٍ، وتهمٍ تبادلوها بين بعضهم فكانت الفضائح. فأصبح عندها الجميع بريئًا ومؤيّداً للثورة الحقيقيّة.

حالة الواقع اللّبنانيّ اليوم يُرثى لها، فأنظار الجميع داخلياً وخارجياً مصوّبة على الانتخابات النيابية المقبلة في 15 أيار 2022! البعض ينتظرها بأملٍ، طامحاً لرؤية وجوه سياسيّة جديدة، نظيفة الكفّ لا تمتّ للفساد بصِلة؛ بينما البعض الآخر المتشبّث برأيه، بمعظمه يؤيد أحزاب السلطة التي تربّى على أفكارها وهي بسبب تحالفاتها أوصلتنا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة إلى وضعنا الراهن.
لكنّ المفارقة هي بنتيجة هذه الانتخابات، لأنّها قد تكون فرصة التغيير الحقيقي لتحسين وضع الاقتصاد الوطني مثلاً، من خلال تثبيت سعر صرف الدولار والسير جدّياً بالمفاوضات مع صندوق النقد الدولي بالإضافة إلى تحسين الوضع المعيشيّ للأفراد وتأمين أبسط درجات الحياة الكريمة لهم.
ومع تغيير “الطقم” السياسيّ القديم من خلال وعي الشعب وانتخابه برنامج سياسيّ وليس ابن سياسيّ. ننتظر مترقّبين ومتأملّين تعديل ما أنتجته المنظومة الطائفيّة الحاكمة على مدار عقودٍ؛ لكي تكون الجمهوريّة اللّبنانيّة الثالثة من خلال تعديل الدستور الجديد، مدخلاً نحو لبنان جديد. الشعب اللبنانيّ اليوم وبعد 30 عاماً من رزوحه تحت نظامٍ طائفيّ دمّر عصب الدولة وقوّى نفوذ الطوائف، اضمحلّت وطنيّته على حساب تعزيز طائفيّته.
يحلم اللّبنانيّ اليوم بولادة الجمهوريّة الثالثة، لأنّ طموحه أكبر من النظام الطائفيّ الذي يحكمه؛ فتترجم هذه الولادة الجديدة من خلال تعديل الدستور وتكريس المساواة بين النساء والرجال بكامل الحقوق. فتتبنّى الدولة الجديدة القانون المدني للأحوال الشخصيّة على حساب القوانين الطائفيّة المتعددة. ومع تفعيل دور اللامركزيّة الإداريّة والماليّة وتعزيز الديمقراطيّة التوافقيّة في لبنان، وإلغاء المُحاصصة تُلغى طموحات الطوائف السياسيّة والتوظيفيّة داخل إدارات الدولة، نستطيع السعي لتحقيق إنماء متوازن بين المناطق.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us