عصا العقوبات الغليظة


أخبار بارزة, خاص 7 نيسان, 2022

كتب راشد فايد لـ “هنا لبنان”:

أقلّ من 40 يوماً تفصل اللبنانيين عن انتخاب مجلسٍ تشريعيٍّ جديدٍ، مع ذلك لا يزالون يسألون، مرّةً بتهكّمٍ، ومرّاتٍ بعدم تصديقٍ، من يظنّونه عالِم الأسرار: هل ستجري الانتخابات؟

لو نُقل هذا المشهد إلى علم شخصٍ من الدول التي نحاول أن نكون على صورتها ومثالها، لكان استغرب السؤال وطرْحَه، إذ هل يعقل في بلدٍ (يفترض أن) يحكمه دستورٌ أن تكون مواعيد الانتخابات، أيًّا يكن مجالها، موضع تبديلٍ وتغييرٍ لأتفه الأسباب، أحياناً من باب الخصومات السياسيّة، وأغلب الأحيان لمنع أيّ تغييرٍ ولو من المرعى السياسي ذاته.

يسيطر هرم المصالح على كلّ شيء، وتوزيع المغانم يتقدّم كلّ مقياس. كان ذلك زمن الجمهوريّة الأولى، واستفحل مع الجمهوريّة الثانية. ففي ظلال دستور 1943، لم تكن النّزاهة السياسيّة عنواناً بارزاً في الحياة العامّة، لكنّ الطّاقم السّياسيّ كان يدرك معنى العيب، ولا يتمادى في استغباء الرأي العام، وإذا فعل بذل جهداً ليخفي “جريمته”، بينما ورَثَته، من خرّيجي الميليشيات، يفاخرون بنهب مال الدّولة والناس، ويصادرون أراضي البلديّات والمشاعات ويتبجّحون بما ملكت أيديهم من حرام، ويظهرون ثراءهم المفاجئ من دون وَجَلٍ من سؤال الناس المنطقيّ لهم: من أين لك هذا؟ وهو سؤالٌ موسميٌّ لا أحد يطرحه جديًّا، ولا أحد ينتوي تقديم إجابة له.

بين غياب مفهوم العيب وفجور النهب العام، يتسلّل تغييب النظام العام: فلا تاريخ ثابت على مرّ السنين للانتخابات، أيّ انتخابات، لا بلدية ولا نيابية ولا رئاسية. فتمديد الولايات والعهود والصلاحيات بات تقليدًا “وطنياً” متعارفاً عليه ومسلّماً به، وحظوظه في أن يُعتمد كَحَلٍّ، تنافس حظّ إجراء الانتخاب، وربّما تفوقه.

كلّ ذلك يهون أمام المشهد الوطنيِّ العام: بلدٌ مفلسٌ، قضاؤه يترنّح تحت ضربات السياسيّين وعفّتهم المزعومة، وارتفاع أسعار لا يعفّ عن أساسيّات الحياة اليوميّة، وطوابير لشراء كلّ شيء وأيّ شيء، ووعود بكهرباء لا تأتي منذ أكثر من عشر سنوات، ولها حق “زيارة” متقطعة لأصحاب الحظوظ، والبركة، وأحياناً تتسلّل إلى البيوت تحت جنح الظّلام فلا يراها أحد، ولا تسرّ أحداً.

بلدٌ ينام ويستيقظ على وعودٍ لا تتحقّق، ومصائب تتراكم. وُعد بالكهرباء ولم يجدها، ووُعد بإصلاحٍ وتغييرٍ تبيّن أنّهما أشبه بالسّراب، ووُعد بدولة قوية، فاختفى ما كان بقي لها من قوّة، وإذا أظهرتها، فلحماية القوي.

بلدٌ يزخر بالأغنياء ويفيض بالمحتاجين والمعوزين، وحياة أهله معلّقة على كرتونة، لكنّه يحسن التلاعب بالدولار، ويستدين ليشتري ورقة “لوتو” لا تربح.

بلد يشهد تفجير قلب عاصمته، وبعد سنتين من الحدث الجلل، لم يزل قضاؤه يدور في حلقةٍ مفرغةٍ، ويبحث في هامش الجريمة لا في جذورها، وفيما تُفاخر الدول المتقدّمة بأنّها دول تحترم القانون، وتطبّقه على الجميع، مواطنين وأجانب، لأنّ الحق عندها حقٌّ أيًّا كان صاحبه، ولا منفذ منه أو مهرب. هو أمرٌ كان يعرفه لبنان، قبل “نكتة” محكمة الرؤساء والوزراء التي لا تزال حبراً على ورق منذ أكثر من 20 سنة جعلت منها نافذة هروبٍ للسياسيين.

على هذا المنطق، تخيّل أنّ انفجار مرفأ بيروت أصاب دولةً أخرى كقبرص، وهي غير بعيدةٍ عنّا، هل كانت التحقيقات استمرّت سنتين من دون أن يُعرف المسؤول الحقيقي ومن جاء فعلاً بالباخرة المشؤومة، ومن صاحب نيترات الأمونيوم، وكيف اختفت كميّاتٌ منها، بينما التحقيق يقفز فوق أساس الانفجار ويتّجه إلى ضواحيه.

كيف تصدق الناس أن الانتخابات قائمة في موعدها، على ذمّة المسؤولين، فيما لم يتحقّق قول رأس الدولة الذي كاد أن يقسم بأغلظ الأيمان أن التحقيق بجريمة المرفأ، بهولها، وضحاياها، وشهدائها، سيكشف القتلة خلال أيام.

اعتاد اللبنانيون على أنّ الكذب ملح السياسة، وأنّ ظروف العالم والمنطقة أصدق إنباءً من وعود السّاسة، ولأنّ الوصاية السّوريّة جعلت المستحيل ممكنًا، كتعديل الدّستور لتمديد ولايتي الرئيسين الياس الهراوي وأميل لحود، لحساباتٍ أسديّةٍ، وكذلك تمديد ولاية مجلس النواب، بحججٍ غبّ الطلب، لم يعد لديهم مواعيد مقدّسة لتداول السلطة، فكيف وقد اخترع المهيمنون ما سمّوه توافقيّةً وميثاقيّةً وما إلى ذلك من استنباطاتٍ يتبرّع كثيرون لوضعها في التّداول ليس خدمةً للبنان واللبنانيين، بل لاستراتيجيات الآخرين.

برغم ذلك الانتخابات قائمة، ليس لأنّ السياسيين المسيطرين يريدون، بل لأنّ العصا الدولية الغليظة، من عقوباتٍ وسواها، تصرّ على إجرائها.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us