هل يبقى البلد؟


خاص 15 كانون الأول, 2023

قدم المستفيدون من الانهيار مصالحهم الذاتية على مصلحة الوطن، ويقولون أن ما يفعلون يعزز مصلحة البلد. لكن هل يبقى البلد؟


كتب راشد فايد لـ “هنا لبنان”:

قبل أكثر من أسبوع ونيف، كانت ذكرى وفاة يوسف بيدس، الفلسطيني – اللبناني. تذكر قليلون هذه العلامة الفارقة في التاريخ الإقتصادي للبنان، الذي يجمع من عايشوه على نسب الفضل الأكبر إليه في نهضة سنوات الستينات من القرن السابق، واتخاذ لبنان موقعاً عالمياً، حتى وُصف بالعبقري، وهو الرجل الذي تمنى شارل ديغول، كما يُروى، أن يكون لفرنسا شخصية مثله كوزير مالية. وهو صاحب أول تبرعٍ فاق الألف ليرة لبنانية لحركة فتح في بداياتها. وهو أسّس في لبنان بعد ضياع فلسطين أضخم إمبراطورية مالية في الشرق الأوسط. وتحالف ضده رجال المال والسياسة في لبنان في قصة تحليق وانهيار ما زالت تثير الجدل حتى اليوم.

إلا أنّ نكبة عام 1948 اضطرته للهجرة إلى لبنان بلد زوجته وأمه. وفي بيروت أسّس بعد فترة وجيزة مكتب صيرفة برأس مال بلغ 4 آلاف دولار، بالشراكة مع أربعة من أصدقائه، وباشر العمل في صرف العملة الأجنبية وتشغيلها، وهو، أصلاً، جاء إلى لبنان من القدس حاملاً ثروة بملايين الدولارات، أتاحت له، مع أصدقاء فلسطينيين لجأوا إلى لبنان، الخوض في استثمارات مالية مجزية، مستفيداً من خبرته المصرفية التي كان اكتسبها في مصر، من عمله في هذا القطاع، وكانت أبرز إنجازاته السيطرة على جزء كبير من السوق المالي في لبنان، ثم تأسيس “بنك إنترا” عام 1951، واستطاع في فترة قصيرة أن يكون قطباً مصرفياً عالمياً حتى اعتبر الأب الفعلي للاقتصاد اللبناني الحديث. وهو أسس شركة الطيران اللبنانية وتلفزيون لبنان وعشرات المشاريع الاستراتيجية الاخرى التي صنعت فترة لبنان الذهبية.

وقائع “عبقرية بيدس” وتجلياتها الإقتصادية متوافرة في أرشيف الإعلام اللبناني وغير اللبناني، من عربي ودولي، لا سيما بعدما انتشر حضوره عالمياً، وارتفع عديد فروع إنترا والمصارف الشقيقة إلى 40 فرعاً في لبنان ودول عربية وأوروبية وأميركية، إضافة إلى الشركات التابعة مثل شركة مرفأ بيروت وراديو أوريان وفندق فينيسيا وشركة التلفزيون اللبنانية واستديو بعلبك وحوض لاسيوتا لبناء السفن في فرنسا وغيرها. وتجاوزت موازنة مجموعة “إنترا” في تلك الفترة خمسة أضعاف موازنة الدولة اللبنانية، وكانت تشغل ثلاثين ألف عامل، أي أكثر من موظفي القطاع العام آنذاك.

تقول الروايات المتداولة، في تلك المرحلة وبعدها، أنّ ما عُرف بأزمة انترا (1966) له أكثر من سبب، من ذلك العداء الإسرائيلي، والخوف من تنامي الدور اللبناني المالي الإقليمي، ويضيف البعض أنّ واشنطن لم تكن بعيدة عن الأزمة. لكن اللافت كان أنّ الأزمة انفجرت فيما كان لبنان في قمة الإزدهار وأطاحت بإمبراطورية بيدس وبالقطاع المصرفي الذي كان يشهد انتعاشاً في تلك الفترة.

تعيد أغلب تأويلات انهيار “إنترا” الأمر إلى خوف العائلات اللبنانية صاحبة النفوذ المالي والسياسي من هذا الفلسطيني العنيد الذي هدّد عروشهم فتحالفوا ضده وأشاعوا لهذه الغاية أخباراً كاذبة تشكك في الأوضاع المالية للبنك، وضغطوا على بعض العملاء لسحب ودائعهم منه.

بحلول عام 1966 استحوذ بنك إنترا على 17% من الودائع اللبنانية ما لم يرق للنخبة اللبنانية وتقول روايات الكواليس السياسية أن بعض السياسيين خافوا من بيدس وأنشأوا تحالفاً خفياً لإسقاط أمبراطوريته وإيقاف تمدده. وفي بداية عام 1966 كان في رحلة عمل خارج لبنان وظهرت إشاعات قوية بين المودعين بأن البنك ينهار بسبب استثماره بالأسهم وتوجه المودعون للبنك وطلبوا ودائعهم ولكن السيولة لم تكفِ، وتسابق كبار المودعين لسحب أموالهم بعد خوفهم من إفلاس البنك، ما حوّل الأزمة إلى كارثة وأدخل المصرف في نفق الانهيار.

سحب المودعون العرب أموالهم، وكذلك فعل لبنانيون مستثمرون، وصغار المودعين كما كبارهم وهرب بيدس إلى البرازيل، التي لبّت لاحقاً طلب لبنان تسليمه برغم عدم وجود اتفاقية تسليم معها، فردت الحكومة البرازيلية بوضعه قيد الإقامة الجبرية، قبل أن يهرب إلى سويسرا، حيث سجن وتوفي عن 51 عاماً.

ليست ذكرى “بنك إنترا” ما أحالني إلى نبش الماضي، بل هو تشابه ما كان قبل نحو 60 سنة، وما نشهده حالياً: تجمع الروايات حول انهيار إنترا، على أنّ لبنانيين متمولين كانوا شركاء أساسيين في تقويض إمبراطورية بيدس، وآماله اللبنانية، من بوابة الغيرة والجهل، وضيق أفقهم عما يجب أن يحضّر لمستقبل لبنان.

ألا يذكّر ذلك بما نشهده اليوم من صراعات تُستخرج غبّ الطلب بعنوان التمديد واللا تمديد، لسنة أو أقل أو أكثر، أو التجديد، وطمس انتخاب رئيس للجمهورية برشقات من الزجل الشعبي السياسي، الذي يفضح الأنانيات الضيقة وغياب الحس الوطني، ما يخدم أعداء لبنان وانهياره؟

ألا يذكّر ذلك باغتيال رفيق الحريري ومشروعه لإنهاض لبنان من ذيول الحروب على أرضه؟

في كلتا الحالاتين، قدم المستفيدون من الانهيار مصالحهم الذاتية على مصلحة الوطن، ويقولون أنّ ما يفعلون يعزز مصلحة البلد. لكن هل يبقى البلد، بينما الخرائط تُرسم من جديد، وقياداته تطبخ في طناجر “التو” السياسية؟

 

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us