الصفقة التي يطمح إليها “الحزب”


خاص 11 كانون الثاني, 2024

يتوقع “الحزب” أن يقوم الأميركيون بمكافأته على الانخراط في اتفاقي الترسيم البحري والبري، فيتم الاعتراف رسمياً بدور له داخل خط الليطاني إلى جانب الجيش اللبناني كمراقب على الأقل


كتب طوني عيسى لـ”هنا لبنان”:

لم يكشف سراً سفير إيران في سوريا حسين أكبري، بإعلانه أنّ وفداً من دولة خليجية حمل إلى إيران عرضاً للتفاوض على صفقة تشمل أزمات الشرق الأوسط كلها. فبين الطرفين الأميركي والإيراني خطوط اتصال عديدة مفتوحة، مباشرة وغير مباشرة. وأساساً، يتبنى الرئيس جو بايدن نهج التفاهم مع إيران كركيزة استراتيجية في سياسته الخارجية.
والأرجح أنّ الرئيس الأميركي كان على وشك إحياء اتفاق فيينا، بعد إدخال تعديلات عليه، لولا أنّ الإيرانيين أنفسهم تراجعوا في اللحظة الأخيرة، بسبب اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا، شتاء 2022. وسيحرص بايدن على عدم التصادم مع طهران في العام الأخير من ولايته الرئاسية، كما بقي يفعل في الأعوام الثلاثة الفائتة.
وهذه المقاربة الهادئة يقابلها الإيرانيون بالمثل. فعلى رغم المواقف العالية السقف التي يطلقها قادتهم، هم أيضاً يحرصون على عدم استفزاز إدارة بايدن، خصوصاً أنهم يتحسبون لاحتمال الدخول في مرحلة عاصفة، إذا فاز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية، خريف 2024، كما يتوقع كثيرون.
وعلى مدى العام الفائت، جلس الطرفان مراراً إلى طاولة المفاوضات، على مستوى الديبلوماسيين والخبراء. وفي أيلول، توصلا في قطر، إلى اتفاق على تبادل بعض السجناء، وتحرير أرصدة إيرانية قيمتها 6 مليارات دولار.
وفي حمى القتال الدائر في غزة، حرصت إدارة بايدن على منع إسرائيل من توسيع الحرب لئلا تتّخذ طابعاً إقليمياً وتنخرط فيها طهران والتنظيمات الحليفة لها. وما يهم الأميركيين خصوصاً هو تجنب المغامرة في لبنان، ومنع بنيامين نتنياهو ورفاقه من نسف قواعد الاشتباك تماماً مع “حزب الله”. وهذا أحد الأهداف الأساسية من حركة الموفدين الأميركيين إلى المنطقة، ولاسيما وزير الخارجية أنطوني بلينكن والوسيط عاموس هوكشتاين.
في المعايير الإقليمية، جبهة لبنان مثيرة للقلق أكثر بكثير من جبهة غزة. فصحيح أن “حماس” هي الحليف السنّي للإيرانيين، وأن الاشتباك الإسرائيلي معها هو اشتباك غير مباشر معهم، إلا أن الاشتباك الإسرائيلي مع “حزب الله” في لبنان مختلف تماماً بمغزاه. إنه اشتباك مباشر مع إيران، لأن “الحزب” هو الفصيل الشيعي المتقدم، والذي يشكل جزءاً عضوياً من منظومتها القتالية في الإقليم.
حتى اليوم، يتجاوب الإسرائيليون مع واشنطن، ويتجنبون توسيع غاراتهم لتشمل أهدافاً عسكرية لـ “حزب الله” بعيدة، شمال خط الليطاني. لكنهم بدأوا يستفيدون أكثر فأكثر من الضوء الأخضر المعطى لهم لتنفيذ عمليات التصفية الجسدية، على مسافة كيلومترات قليلة من الحدود. وأما التوغل الوحيد، حتى الآن، إلى ضاحية بيروت الجنوبية فاستهدف مسؤول “حماس” صالح العاروري. وبدا واضحاً أن إسرائيل تجنبت إصابة أيٍّ من كوادر “حزب الله” الذين ربما كانوا في المكان قبيل العملية.
هذا يعني أنّ هناك تفاهماً ضمنياً على مراعاة خطوط محددة مع “الحزب”، وتقاطع مصالح بين الولايات المتحدة وإيران يستدعي مراعاة سقف معين للتصعيد. ويريد “حزب الله”، بدعم إيراني، الاستفادة من الفرصة المتاحة لتكريس نفوذه القائم حالياً بفعل الأمر الواقع في لبنان.
وقد بدأ هذا المسعى في العام 2021، بمفاوضات ترسيم الحدود البحرية التي كانت واشنطن راعياً لها من خلال الوسيط عاموس هوكشتاين، وفيها كان “الحزب” هو المفاوض الحقيقي من الجهة اللبنانية. وميزة هذه المفاوضات أنها أتاحت نشوء قناة اتصال غير مباشرة بين هوكشتاين و”الحزب”. فاتفاق الترسيم البحري لم يكن ليوقع لولا موافقة “حزب الله” على تراجع لبنان من النقطة 29 إلى النقطة 23.
وقبل أسابيع قليلة من اندلاع الحرب في غزة، جاء هوكشتاين إلى لبنان، ليعلن الانطلاق بالمرحلة الثانية من الترسيم، التي تشمل الحدود البرية. وتأكيداً لـ”التطبيع” بينه وبين “الحزب” وبيئته، نشر صورة له تُظهره جالساً في أحد مقاهي الروشة برفقة السفيرة دوروثي شيا، ثم صوراً أخرى لهما في قلعة بعلبك.
وهذه الجولة حملت رسائل سياسية عميقة، خلاصتها أن الولايات المتحدة مستعدة لعقد صفقة جديدة مع “الحزب”، من خلال السلطة القائمة في بيروت، والتي يمتلك فيها القرار الأقوى، كما فعلت في ملف الترسيم البحري.
ويقول العارفون إن طبخة الترسيم البري باتت جاهزة تقريباً، ولا ينقصها إلا القرار بإبرام الاتفاق الجديد. لكن هذا الأمر ينتظر وقف دوي المدافع في غزة والجنوب اللبناني. وفي زيارة هوكشتاين الحالية للبنان سيتم إنجاز المسوّدات، لتكون جاهزة للحظة المناسبة.
وعلى الأرجح، سيكون الترسيم جزءاً من اتفاق على ترتيبات معينة مشمولة بضوابط أمنية وعسكرية سيلتزمها “الحزب”، من خط الحدود حتى عمق معين داخل الأراضي اللبنانية. وهنا يُطرح السؤال: ما الذي سيدفع “حزب الله” إلى الموافقة على هذه الترتيبات التي يرفضها اليوم في المطلق؟
المتابعون يقولون: يتوقع “الحزب” أن يقوم الأميركيون بمكافأته على الانخراط في اتفاقي الترسيم البحري والبري وعلى توفير الأمن لعملية استخراج الغاز في المتوسط وللمنطقة المحاذية لإسرائيل، فيتمّ الاعتراف رسمياً بدور له داخل خط الليطاني إلى جانب الجيش اللبناني، كمراقب على الأقل.
طبعاً، هذا الأمر سيكون مثار نقاش ساخن بين المتفاوضين، لأن منطوق القرار الدولي 1701 يمنع أي وجود عسكري غير رسمي في تلك المنطقة. لكن المكسب الثاني الذي يريده “حزب الله” هو حصوله على المزيد من المكاسب في الداخل. فهو سيطالب بأن تكون السلطة في لبنان “مطَمْئِنَة” له، كشرط لازم قبل أن يقدم التنازلات. وهذا يعني أن يكون هو السلطة عملياً.
ومن هذا المنطلق، يمكن تفسير الجمود السياسي الطويل السائد حالياً، ولغز التحريك المفاجئ لملف رئاسة الجمهورية، في لحظة التحضير لمجيء هوكشتاين إلى لبنان. فـ”حزب الله” يراهن على “براغماتية” واشنطن و”سخائها”، عندما يسهل اتفاق الترسيم الثاني والترتيبات المرافقة له. وتقديره صحيح إلى حد معين.
لكن المؤكد هو أن هناك سقفاً لا يتجاوزه الأميركيون، وهو تقديم لبنان لقمة سائغة لإيران، وتمكينها من تحويله منصة لها على أبواب المتوسط نحو أوروبا وعلى حدود إسرائيل. وهنا تبدأ عقدة المفاوضات وتنتهي.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us