نبض الشارع في الضاحية الجنوبية.. إيران “خوش أمديد” ومن يتكلم عن سلاح المقاومة “يجرب إيدو يمدا”

كل شيء يسير على مهل، “ع الدقة ونص”، ليعود ويتوقف تحت حججٍ وحجج، وكأننا نملك رفاهية الوقت. وأكبر خسارة قد يتعرض لها إنسان، مطلق إنسان- كما تعلمون- هي خسارة الوقت. فمنذ وعينا ونحن نسأل: وماذا بعد؟ ماذا بعد عملية تصفية الحسابات عام 1993؟ ماذا بعد عناقيد الغضب عام 1996؟ ماذا بعد “التحرير” عام 2000؟ ماذا بعد حرب تموز 2006؟ ماذا بعد أحداث 7 أيار؟ ماذا بعد طوفان الأقصى وأقصى وأقسى ما أصابنا؟ الوقت يمرّ والزلازل العسكرية تتتالى. تعب اللبنانيون. تعب أهل الجنوب والبقاع. وتعب كثيراً كثيراً أهل الضاحية. في 27 تشرين الثاني 2024 سرى إتفاق آخر لوقف النار يُخرق يومياً. والعين اليوم على متلازمة الأسئلة التي ليس لها، في قاموسِ دولة لبنان، أجوبة: وماذا بعد؟ ماذا عن الضاحية الجنوبية التي عانت الأمرين؟ ماذا عن الردميات والإعمار والحياة والموت؟ ماذا عن أهل الضاحية، المنهكين، غير القادرين على النوم ملء جفونهم خوفاً من إنذار مفاجئ يخطر على بال أفيخاي أدرعي؟ فلنذهب معاً إلى هناك علنا نفهم نبض الضاحية الجنوبية من قرب..
كتبت نوال نصر لـ”هنا لبنان”:
البارحة، وصل وزير خارجية إيران عباس عراقجي الى بيروت. نظرياً، هناك من حلا له أن يُصوّر الضاحية- كلّ الضاحية- وكأنها كانت في انتظاره. لكن، شتان ما بين النظري والواقعي، وبين الحقيقة والخيال. ففي الواقع كان سكان الضاحية الجنوبية، الذين عادوا إليها، يلهثون وراء لقمة العيش. لا يافطات ترحيبية عُلقت على الطرقات العامة. ووحدها إعلانات: شقق للبيع وشقق للإيجار طغت. نعم، سكان الضاحية الجنوبية الذين تعبوا من الحروب المتكررة، والكلام الطنان الرنان، يخشون أن تطاردهم مجدداً الغارات الإسرائيلية.
من بوابة الشياح عبرنا الى قلب الضاحية. بائع ورد على عربة عند المستديرة، ورجل يهتف كلما مرّت سيارة “على ذوقه”: للبيع، للبيع… وكلما توغلنا أكثر، تعمّ الفوضى أكثر. دراجات نارية تعبر يمنة ويسرة بدون مراعاة أصول السير. وبوكلاند “تعورض” عند أحد تقاطعات الشياح- عين الرمانة، لرفع الردميات. مشهدية “البوكلاند” تتكرر في كل الضاحية التي تنتظر إعادة الإعمار. ويافطة تحكي الكثير مذيلة بصورة السيّد حسن نصرالله “لسنا بخير وما عرفنا العافية، لا طابت الدنيا وعينك غافية، قم من ثراك فإذا طليت تردّ روح الضاحية”.
صور شباب قضوا في الحرب الأخيرة تتجدد وشعبة الكفاءات عنونت: “نزرع أجسادنا في الأرض والقطاف آت وهو التحرير”. و”أكثروا الدعاء لتعجيل الفرج”. عبارة من قاموس الإمام المهدي المنتظر. باعة الجنارك والمشمش على الميلين. هنا جادة الشهيد هادي نصرالله. مؤسسة القرض الحسن بلا ضاد. طار الحرف وطارت كلمة الحسن. مبان على “صوص ونقطة” على هياكلها يُنشر الغسيل. ثمة عائلات عادت تسكن في ما يشبه العراء. وصورة ثلاثية الأبعاد: حامي الأمة (الأستاذ نبيه)، شهيد الأمة (السيد حسن)، إمام الأمة (السيد موسى الصدر).
“لن تسقط لنا راية”. ومقولات عن “إنتصارات”. صور نبيه بري كثيرة كثيرة. وشباب “فلوا” صورهم في كلِ مكان تعنون باسم: الشهيد السعيد. والشهداء السعداء. ترى ألم يكن ممكناً لهؤلاء إيجاد السعادة إلا بالموت؟ سؤال خطر في بالنا ونحن نتابع المسار بحثاً عن مصير ضاحية. ثمة عبارة تتكرر كتبها أشخاص لا يؤمنون إلا بجدوى السلاح “المقاومة خيار وحيد لتحرير الأرض”. نبحث عن لبنان في الضاحية فنجده في عنوان “فرن لبنان”. نفرح. أهل الضاحية لبنانيون لكنهم أقحموا في عناوين “الأمة” واليمن وسوريا الأسد وفلسطين فدفعوا الثمن- ودفعناه- غالياً جداً. “سماحة العشق” عبارة تذيّل صور السيد الراحل. محطة محروقات على الأرض. أحياء تستمر بعد عشرة أشهر على الأرض. مرشح عن مقعد مختار في لاسا عبد الكريم زين الدين نشر صوره في الضاحية . شعبة الليلكي علقت يافطة عن التعايش الإسلامي المسيحي”.
نسير واليد على القلب من “مستقوٍ” أو “مستقوين”. فالتصوير ممنوع لكننا نصوّر بقرارٍ ذاتي، فالضاحية- في منطقنا- جزء من لبنان وليست خارجه وهكذا يفترض أن تعود. نتابع. هنا لبنان. عبارة خرطشت على جدار قرب ثانوية الإمام الصادق الدولية. حاجز للجيش. نفرح. هنا ضواحي الحدث. نعود أدراجنا إلى قلب الضاحية. أعمال تجري على نفقة المالكين ريثما يبان الخيط الأبيض في خيوط الإعمار الموعود. “أقسمنا لنبينا ونبيهنا وشهيدنا وغائبنا”. هو قسمٌ يتكرر بالإبقاء على السلاح. الجنارك معروض بمئة ألف ليرة فقط لا غير في برج البراجنة. وتكرار جملة: “أطال الله في عمر دولة الرئيس نبيه بري”. هو حاضر في الضاحية الجنوبية أكثر بكثير من قبل. نمر جانب الشاطر حسن للطيور. الناس تمشي بلا هوادة. هم في ميل وكل الشعارات في ميل آخر.
هناك من ظنّ أنه طمأن أهالي الضاحية الجنوبية بالقول: “لا أحد يعرف من أين سينبت عناصر حزب الله”. ننظر بتمعن إلى كل التفاصيل فلا نرى إلا أناساً مخنوقين من شدة الظلام المحيط بهم، غير متأكدين من مصير يُقال أنه ينتظرهم- تكراراً- ولو بعد حين. ناس الضاحية يمتلكون من الطيبة الكثير لكنهم مخنوقون. زحمة سير جانب أفران الياسمين. شرطة بلدية برج البراجنة تنظم السير وعناصر ملتحون يقومون بالواجب. دراجات نارية تسير “زيك زاك” تلقي التحية على العناصر ويمضي أصحابها بسلام. شوارع مليئة بالركام وطرقاتها مردومة مرحلياً. بقايا شقق للإيجار بين الركام. مشهد غريب. وحلاق نسائي “غالا” عاد وعنون على يافطة “عدنا بدماء شهدائنا”. محطة كهرباء الضاحية عنونت “تمديد اشتراكات وصيانة”. عبارة تحذيرية في الجوار “منطقة أشغال يمنع ركن السيارات”. ويافطة “هذا الطريق سنكمله حتى ولو قتلنا جميعنا ولو دمرت بيوتنا على رؤوسنا لن نتخلى عن خيار المقاومة”. ترى هل قرأت دولتنا اليافطة؟ الأرض تخبر ما لا يقوله كثيرون في العلن.
نمر في شارع “منصور”. حتى الشارع يصرون على اعتباره “منصوراً”. جميل أن يتحلى الناس بالأمل والتفاؤل لكن ليس على حساب الإعتراف بواقع. لكن من يكتبون الشعارات- كما تعلمون- يفعلون ما يريدون. “الله يساعد العالم” نردد ذلك ونحن نراهم يمشون متهالكين بحثاً عن أفق ووسائل بقاء.
يصدر صوت في الجوار. أغنية ترتفع: “بدك السلاح؟”. ننصت إلى كلماتها: “قلتلي بدك السلاح، أي ساعة بدك ياه؟ إبكي صدقني بترتاح، وقف أحلامك معليه. مقضيها قاعد تتحدى، عالشاشة ومش عم تتهدى، جرّب إيدك مرة مدا، وشوف إنت يحصلك إيه”. أغنية يهيص لها مجموعة شباب في قلب الضاحية.
مهرجانات تقام باسم النهوض والصمود وهي “رسالة أن كل ما يحكى عن إتفاقيات بتسليم السلاح مجرد هراء ومن لا يصدق “فليجرب إيدو يمدا فنحن باقون ما بقي الزعتر والزيتون”. في الغبيري تبدل إسم رئيس البلدية من معن الخليل إلى أحمد الخنسا. وكلاهما من حزب الله. والرئيس الجديد أعلن على يافطة: يتمّ التحضير لإزالة المخالفات والتعديات الواسعة تشمل كامل النطاق البلدي بالتدريج بعد عيد الأضحى”. فما رأي الناس؟ ردوا: “ديروا بالكم في ناس رزقها في الشارع”. والتململ يجعل الناس “يبربرون” على بلدات مجاورة من نوع: “شارع بئر حسن مقفل بالبضاعة التي تباع على الطرقات، والسوريون تحت الجسور، والإكسبرس بلا تراخيص في كل مكان”. ما معنى هذا الكلام؟ معناه فلتجرؤ بلدية الغبيري هي أيضاً أن تمد يدها. يبدو أنّ الناس ما عادوا يثقون بأحد حتى من أوكلوا- من حزب الله- بأمورهم.
نكاشو النفايات يعملون ليل نهار قرب “الفانتازي لاند” مقابل التعاونية العاملية. الناس يعيشون في قلق. وأحدهم علق عند مدخل بيته عبارة: “عد يا سيدنا أو خذنا فنحن نحتاج إليك”. جاره ردد: “نحن في انتظار ظهور السيّد مع الإمام المهدي المنتظر بإذن الله قريباً سيدي ومولاي”. جار ثانٍ مازح بالقول: “طول ما نعيم قاسم موجود ما منعتل همّ”. هي بالنسبة إليهم مزحة.
الأرض تتكلم. وكل الكلام الآخر مجرد كلام. بعد 250 يوماً من رحيل سيد حزب الله جلنا في الضاحية لتبيان “نبض الأرض” وتأكدنا أن مسأله إزالة السلاح في المواقف والتحليلات غيرها تماماً على الأرض. وزير خارجية إيران أتى وقال: نحترم شؤون لبنان الداخلية ولا نتدخل فيها. غير أن هناك من في الضاحية تذكر اليوم، البزر الإيراني قائلاً “لا تحلو أيامنا إلا مع هذا البزر وهو موجود في الضاحية الجنوبية”. ذكره ثان “سنأكل البزر الإيراني ولن ننسى القهوة الحشداوية والرمان اليمني الشريف”.
“خوش أمديد”… أهلاً وسهلاً بوزير الخارجية الإيراني في لبنان. عبارة عند مفرق طريق. يبدو أنّ هناك من في الضاحية ما زال لا يستنشق الهواء إلا من البذور الإيرانية وهو عالم وعليم أنّ “المقاومة الإسلامية” ليست إلا واحدة من أدوات بلاد فارس التفاوضية لا أكثر ولا أقل. والدليل، أن تكون زيارة عراقجي- ظاهرياً- توقيع كتابه: قوّة التفاوض!