الأرمن لا ينامون على حرير… “Barev” في برج حمود!

إنّها برج حمود. هنا السوق التجارية التي طالما كانت لها نكهة خاصة جدًا تقترن بعبارة أرمنية ترحيبية دافئة: “Barev”. ننزل الى السوق في عزّ الأسبوع فنجد المحال “قفرة نفرة”. ندخل محلًا. ندخل ثانيًا وثالثًا. وبدل كلمة “باريف” نُستقبل بلهجة ترحيبية سورية: يا هلا وميّة هلا. نتجه الى جنبات الدورة فنُستقبل بعبارة ترحيبية باللغة الإثيوبية الأمهرية: “Selam”. ندخل محلًا مجاورًا ملقين التحية باللهجة اللبنانية فيجيبوننا باللغة البنغلادشية: “ناماسكار”… ساعتان في برج حمود أشبه برحلةٍ الى جنباتٍ من الكرة الأرضية. في برج حمود ألف حكاية وحكاية.
كتب نوال نصر لـ”هنا لبنان”:
كل شيء يتغيّر في البلد. أشياء كثيرة انقلبت “فوقاني تحتاني” ليس في لبنان وبرج حمود فقط بل في كل العالم. الذكاء الاصطناعي بات على كل شفة ولسان. الأذكياء جدًا والأغبياء جدًا يتحدثون عن التبديل الحاصل والتغيير الآتي. وبين بين، ها هي بلدة برج حمود تحيا بوجهَيْن: الوجه البلدي الذي يُروّج له، والوجه السكاني والتجاري والاجتماعي. ندخل الى البلدة من جهة النبعة، المحسوبة بأجزاء عديدة منها على برج حمود. نعبر من معبر وراء ميرنا الشالوحي فتتبدّل الصورة المدينية. نفايات مشلوحة على الميلَيْن و”نكاشة” أطفال يفلفشون فيها على الطريق العام. كأنّنا في “مزبلة” كبيرة. نعبر ونحن نسدّ الأنوف ونحاول قدر الإمكان حجب العيون. شباب ينفثون النرجيلة في الجوار وكأنّهم يجلسون في “الشانزيليزيه”. تآخى نظر وأنوف هؤلاء مع المشهد. نتوغّل أكثر فنرى أعلامًا صفراء وخضراء وحمراء معلّقة على الأعمدة مع عبارات: لبيك يا حسين. نلتفّ تحت الجسر لندخل الى قلب البلدة. بوكلاند وجرّافات ورصف الطريق وأشغال. مشهدان يبعدان عن بعضهما أمتار.
البلدية تبدو وكأنها تعمل. هي تعلن في منشوراتها أنّها تعمل “ليل نهار” على جملة مشاريع إنارة وإنشاء محطات طاقة شمسية وتنظيف القنوات وتعبيد الطرق. نتمهّل ونسأل رجلًا عجوزًا يجلس على قارعة الطريق على الرصيف عن المشهد المتكرّر في تفاصيل وشوارع كثيرة، فيُجيبنا بنبرةٍ جافةٍ مباشرةٍ: “يا عالم، كم مرة قبّعت هذه الحجارة وأعيد رصفها و”تيتي تيتي متل ما رحتي متل ما جيتي”. برج حمود بحاجة الى أمن وأمان والى نظام وتنظيم”. أشغال كثيرة تتمّ لكن المطلوب – بحسب السكان الأصيلين – شيء آخر. فبرج حمود، التي طالما طغى فيها الوجود الأرمني، باتت “متعدّدة الجنسيات”. هل نفهم من ذلك أنّها أصبحت سورية؟ تهزّ امرأة رأسها مردّدة: سورية، بنغلادشية، إثيوبية، فلبينية، أكراد، نوَر…
نمشي في السوق التجارية. محال كثيرة مقفلة. فأين ذهب أصحابها؟ تُجيب امرأة مخضرمة تعمل بائعة ملابس في السوق “أصحابها كانوا أرمن، ما عادوا قادرين على سداد أجورها التي ارتفعت كثيرا، فاستأجرها سوريون عادوا وغادروها وهي معروضة اليوم للإيجار”. هي كانت تملك محلًا في الجوار إيجاره الشهري 300 دولار فطالبها المالك وهو أرمني بأن تدفع ضعف المبلغ بعد أن اشتدّ الطلب على المحال من السوريين ففعلت لكنّها عجزت عن المتابعة “الإيجار 600 دولار. كهرباء ومياه وموتور بثلاثمئة دولار”. هو مبلغ ما عادت قادرة على سداده فتركته وها هي تعمل “بائعة” بأجر 450 دولارًا لدى سوريّة تستثمر في المكان. هي تعمل 12 ساعة يوميًا، من الثامنة صباحًا حتى الثامنة مساءً وبالكاد تبيع قطعة أو قطعتين يوميًا. لكن همّها على غيرها. تقترب منا بائعة المحل المجاور للأكسسوارات وتبدأ “النقّ”: “برج حمود تغيّرت كثيرًا، بعدما كانت مقصد السياح “الزنكيلي” فأصبحت مقرًا لجنسيات الأرض الذين يعيثون فيها تغييرًا وتبديلًا وفسقًا وعهرًا. أصبحنا نقفل محالنا قبل حلول الظلام خوفًامن السارقين والمحتالين والمشاهد التي لا تشبهنا”. لدى المرأة عتب على البلدية “في عيد الميلاد 2024 لم تزيّن البلدية شوارع برج حمود ولم نشعر بالمناسبة. كلّ الأسعار زادت علينا ولا نستطيع مجاراتها. اليوم، نستورد الملابس عبر الطيران ونسدّد جمركًا قيمته 7 دولارات عن كل كيلوغرام بعدما كانت تأتينا عبر الحدود بقيمة جمركية لا تتعدّى الأربعة دولارات عن الكيلوغرام الواحد. ارتفعت أسعارنا وزبائننا “قدّ الحال” وتستطرد بالقول “نستورد غالبية بضاعتنا من تركيا”. تركيا؟ نشير لها إلى عبارة مطبوعة على حيطان برج حمود: قاطعوا البضاعة التركية. فتضحك مردّدة: “الكلام شيء والفعل شيء آخر مختلف تمامًا”.
زحمة سير. درّاجات هوائية ونارية كثيرة تجوب البلدة. ومشاة. لكن، المحال نعود ونكرّر “قفرة نفرة”. عبارة أخرى مطبوعة على الجدران: إسرائيل وتركيا وجهان لعملة واحدة. خياط سوري كان هنا. كان نظيف القلب واليدين “آدمي” يساعده ثلاثة شبان لبنانيين استجاب لطلب البلدية وسدد كل الرسوم وأجرى معظم أوراقه القانونية لكنّ البلدية أقفلته بالشمع الأحمر. في المقابل، لا يمكن المرور بعد الساعة الخامسة في المكان لكثرة وجود ما هبّ ودبّ من السوريين الخارجين عن القانون.
في البلدية، كلام كثير عن سعي حثيث لفرض القانون لكنّ أعداد السوريين ما زالت كبيرة. نتوجه نحو شارع “مرعش”. هنا كان الأرمن يبيعون البهارات والحلويات والسكاكر والمربّيات وورق العريش والطحينة التي لا زغل فيها، لكنّ السوريين حلوا بكثرة مكان محال أرمنية كثيرة. شارع مرعش كان يقع بين قلقيقية (كيليكيا) والأناضول في جنوب تركيا، عند أقدام جبال طوروس. أرمن مرعش انتقلوا الى برج حمود قبل مئة عام. كلّ البضاعة الأرمنية كانت هنا. اليوم، باتت كلّ البضاعة السورية تُباع هنا. السوريون استأجروا المحال من أرمن قرروا توضيب أمتعتهم والهجرة الجديدة. عضو بلدي يعطي رقمًا “15 في المئة من المحال اليوم أرمنية والبقية أصبحت سورية أو بنغلادشية أو إثيوبية”. يتدخّل عضو بلدي آخر من آل نازاريت بالقول “لا، لا، هذه أرقام مضخمة. في “مرعش” 200 محل، أكثر من نصفها لا يزال يديرها أرمن. الأرمن لا يستسلمون بسهولة حتى ولو دار عليهم الدهر من جديد”.
مساحة برج حمود 2.25 كيلومتر مربع وكانت تضمّ 160 ألف نسمة. لكن الكثير من اللبنانيين الأرمن – كما اللبنانيين غير الأرمن – سافروا. لكنّ “الأرمني وإن هاجر يأبى إلغاء هويته الأصلية. أولاد “اليان” وإن هاجروا، يندمجون في المجتمعات الجديدة لكنّهم لا يمحون الهوية الأصلية”.
نتّجه صوب كامب السان جاك. هنا تُشيّد البلدية محطةً على الطاقة الشمسية. قبل أكثر من مئة عام، في ثلاثينيّات القرن الماضي، تقاطر الأرمن الى هذه البقعة هربًا من الاستبداد التركي، وشغلوا ثمانية عقارات يملكها ثلاثة من آل حلواني وغندور وداغر وبنوا البيوت من غرفة ومطبخ. أمّا الحمام فكان مشتركًا بين العائلات، التي جمع بينها، بُعيْد المجازر التي تعرّضت لها، الهمّ الواحد والشعور بالظلم وروح التضامن والتآلف الى أبعد الحدود. وتدريجيًا، وجد السوريون والسريلانكيون والإثيوبيون والأكراد البقعة ملاذًا أيضًا لهم، مُشكّلين ما يشبه الموزاييك البشري، فبدأ الأرمن يخرجون من المكان لصالح هؤلاء. يمتدّ الكامب على مساحة عشرين ألف متر مربع تقريبًا. وكم حاول مجلس الإنماء والإعمار تنفيذ مشروع في المكان لكنّ حزب الطاشناق نجح في إرجائه الى حين تأمين البديل السكني للأهالي. اليوم، بنت البلدية مجمّعًا سكنيًا في المكان وانتقل السكان إليه وأول عريسين سكناه كانا سينتيا وهاكوب.
هي برج حمود. وهم السكان الأصيلون في البلدة. لكن، هل المنطقة التي لاذ إليها من زمان وزمان الأرمن بخير؟ الجواب بسيط وسريع: لا. سكّان برج حمود غير راضين عن كل التغيير الحاصل ويجزمون أنّها تأتي دائمًا على حسابهم “فالبلدة يتغيّر وجهها. وشوارع تُنظّف وشوارع لا. شوارع تُضاء وشوارع لا. وكلّ من يريد تنظيم عملٍ غير قانوني يلجأ إليها. فثمّة شوارع باتت بلا هوية واضحة. هناك ليل أصوات تُسمع من عاهرات وفاسدين. وثمّة خوف دائم عند السكان الأصيلين. وكلّما هربت عاملة منزلية آسيوية أو أفريقية من منزل أرباب العمل تلجأ الى منازل مُستأجرة في المكان. هناك متحوّلون ومتحولّات يعملون “السبعة وذمتها” في أحياء يُفترض أنّها سكنية. والبلدية المنهمكة باتفاقيات تعقدها مع جمعيات دولية لتعبيد الطرق والإنارة، تغفل عن مشاهد أخلاقية تُسيء للمنطقة. صحيح أن الدولة تدخّلت أخيرًا للحد من مشاهد العهر مع غروب كل مساء على امتداد شوارع برج حمود وصولًا الى الدورة، غير أنّ هناك “غض نظر” مستمرًا من البعض. أرمن برج حمود ليسوا بخير، فهل هناك من يهتم ببلدتهم جدّيًا مع اقتراب انتخابات 2026 النيابية؟ هو رهان السكان الأصيلين الذين ما زالوا مُصمّمين على البقاء حيث هم مع علمهم أنّ الانتخابات تكون دائمًا عابرة. نغادر برج حمود مزوّدين فقط ببركات القديس الجديد إغناطيوس مالويان الذي عُلّقَت صوره في المكان. فهل من أعجوبة؟!.




