وسط بيروت بين التشاؤم والتفاؤل.. متى “القيامة الحقيقية”؟

إذا كان بين تشرين وتشرين صيف آخر، فما بين لبنان ووسطه حبل سرّة لم ولن ينقطع، فكلما غيّمت في منطقة أمطرت في بيروت. فهل السبب وجودها على خط زلازل طبيعية “وسياسية” وأمنية تتحرك أم وجود من لا يبالون فيها لا بالتاريخ ولا بالجغرافيا ولا همّ لهم إلا “نخر” الوسط والبلد والمؤسسات وقهر من ما زالوا يؤمنون بأنّ القيامة حتماً آتية؟
اليوم، قبل البربارة والميلاد ورأس السنة وشهر رمضان وعيد ميلاد رفيق الحريري وحلول المهرجانات القادمة المتتالية في قلب قلب البلد، نزلنا إلى الوسط لتلمس “حرارة الحياة” في جنباته بعد طول جمود. أردنا أن نتلمس حقيقة “القيامة الجديدة”. فهل كنا نحلم؟
كتبت نوال نصر لـ”هنا لبنان”:
نحن مثل “توما”، نحتاج أن نرى بالعين المجردة، ونقرص أنفسنا، لنتأكد مما يقال ونسمع. كل التجارب التي مررنا بها علمتنا أنّ “الحكي” شيء والواقع شيء آخر مختلف تماماً. فماذا في واقع “الداون تاون” اليوم؟ محال أسواق بيروت انطلقت من جديد، لكن هل فتحت مقاهي ومحال شارع المعرض؟ هل أزيلت حجارة الباطون التي تقفل الشوارع المحيطة؟ هل عاد السياح؟ هل عاد “الوسط” إلى نفسه وعدنا في دولة؟
لو قُدّر للشيخ رفيق الحريري البقاء حياً لكان بلغ بعد أيام في 1 تشرين الثاني عامه الواحد والثمانين (مواليد 1944). وسط بيروت مزيّن، بشكلٍ منسّق مرتب، بصورتين- وهو طفل وهو كبير- مذيلتين بعبارة: “إنسان من لبنان”. نمرّ جنب جامع محمد الأمين في ساحة الشهداء. هنا، حيث يوارى رفيق الحريري الثرى، زحمة زوار. الورود حول المقبرة لا تذبل. شعار الثورة يستمرّ مرفوعاً. و”شخبطات” على الجدران تستمرّ بتذكير المارة بمحطاتٍ كثيرة مرّت من هنا. ووحدها عبارة رفعها أحد المحال شعاراً تمدّنا ببعض الأمل: Beirut in full bloom. قولوا الله.
نمرّ جنب حديقة سمير قصير. ننظر نحو فندق “لو غراي” المقابل الذي هو قيد الترميم للمرة… المئة ربما. كمّ مرّت أحداث من أمامه وأثرت عليه. دمّرت جنبات منه وعاد. أحرقت جنبات منه ويعود. هو صمد كما صمدت بيروت على الرغم من كل نكبات الدهر التي مرّت عليها. “زلزلت” بيروت سبع مرات وقامت. تقطعت أنفاسها مرات ومرات وقامت. ألم يحن أن ترتاح؟
جنب الطريق باصات تنتظر من يحبون المشاركة في جولة يرون فيها بيروت. الباص يقلع كل ساعة ولو براكبٍ واحد. وكلفة الرحلة مدتها ساعتان 25 دولاراً للكبار و20 للصغار، دون الثانية عشرة. والسؤال البديهي: كيف الشغل؟ يبتسم السائق المتكئ على حجر مجيباً: “إنه يتحسن”. جواب ذكي. لا نأخذ منه لا حقًّا ولا باطلًا. لكن، ماذا قد يرى سائح في جولة بيروتية؟ “متحف “ميم” والروشة ومتحف سرسق ومتحف بيت بيروت”.
لبنان جميل. بيروت طبعاً جميلة. وإن كان صدى ما حصل في مخيم شاتيلا يستمرّ مرعباً. فكيف نقنع سائحًا على التجول في بيروت في حين أنّ جنبات كثيرة منها متفجرة؟ سؤال محيّر. فلنحاول أن لا نتشاءم. نتابع طريقنا. الآرمة التي رُكزت عند تمثال الشهداء في 20 حزيران 2005 تشير إلى حيوية في المكان: “برعاية وحضور رئيس الجمهورية العماد جوزيف عون (لا جوزاف كما يفترض أن يكتب الإسم) تمّ تدشين أعمال تطوير وإعادة تأهيل ساحة الشهداء في وسط مدينة بيروت”. نأمل خيراً. ونتابع.
ندخل شارع المعرض. السكون كبير. لا كراسي وزوار. ووحدها رائحة التنباك تفوح من مقهى “بيروتي عتيق” (هذا اسمه) قرر صاحبه أن يعيد افتتاحه. مضى على تنفيذ قراره خمسة أشهر. فكيف الشغل؟ يجيب مدير المطعم محمد فارس “أعدنا فتح المطعم في 20 أيار 2025 بالتحديد. تأملنا خيراً بعد انتخاب الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. والناس بدأوا يزوروننا. نعرف أنّ عودة الحياة بحاجة إلى استقرار. لكن، لولا فسحة الأمل لانتهى لبنان”. متفائل هو محمد فارس الذي أدار فترة طويلة مطعم le petit cafe في الشارع. في كل حال، هناك زبائن من البرلمان يقصدون “بيروتي عتيق”. “البارحة أتى ثلاثة وزراء معاً هم وزير الداخلية ووزير العدل ووزير الدفاع وجلسوا هنا”. يخبرنا مدير المطعم. وماذا طلبوا؟ “قهوة و”درينكز”. جميل أن تعود الحياة إلى شارع المعرض. وجميل أن نرى ثلاثة وزراء- من ثلاثة مشارب- اتفقوا على أهمية تناول القهوة.
قبالة المطعم يقوم عمال بتعليق آرمة اسم مطعم يعود قريباً: قهوة نصار. وعند الزاوية مطعم “place de “l’etoile مفتوح. والطاولة التي شهدت آخر فنجان قهوة شربه الشهيد الحريري ما زالت محجوزة له. ندور حول مستديرة ساحة النجمة. بعض عسكريين يقهقهون. نتذكر كلمات تُتلى داخل المجلس عند التصويت: ثقة. لا ثقة. ثقة. لا ثقة… ترى هل سيستعيد السياح الثقة بمدينتنا؟ نتجه صعوداً حيث فرن عبدو في ساحة النجمة. عبدو “رجع”؟ يجيب “لا، لا، لم أغادر لأعود. أنا هنا منذ أيام الثورة. زبائني بمعظمهم من العناصر المرافقة للنواب. وكلنا أمل، بعدما فتحت بعض الزواريب المحيطة، بانتعاش الوسط”.
التمنيات كثيرة. ما زلنا ندور في رحاها. الوسط رئة البلد فإذا عاد بخير فهذا معيار بأنّ الأزمة إلى حلّ. فالمستثمرون الكبار يستشعرون الخطر عن بعد. وفي الوسط منهم- أو كان منهم- الكثير. يقال، أنّ ثلاثة أرباع الملكيات في شارع المعرض لوقف الروم والوقف الماروني وهناك ملكيات خاصة أما دور سوليدير فخدماتي. ثمة إيجارات قديمة ما زال يسددها أصحابها على دولار 1500. ولا مشاكل بين هؤلاء ومالكي العقارات حتى الآن. يكفي أن تستعاد الثقة ليعودوا. وما تحتاجه المطاعم والمقاهي في ساحة النجمة والمناطق المحيطة يتطلب اليوم وبإلحاح ثقة واستقرارًا أمنيًّا وخطة تنظيمية لتعود الحياة وتتدفق الروح إلى المكان. فهل الاستقرار ممكن؟ هو سؤالٌ كبير برسم الدولة.
نتابع سيرنا في الأرجاء. ثمة كتابات كثيرة من أيام الثورة لا تزال على الجدران الرئيسية: “بيّ الكل وعا”. أتى أب آخر. فهل تستعيد المدينة ألقها؟
يسردون في مقولات شعبية حكايات طائر الفينيق الذي ينتفض من تحت الرماد ويحلق في السماء عابراً كل الحدود، مشبّهين لبنان به. قصص جميلة تعطي نفساً، تقوي في المحن وتمنح صبراً في الأوقات الصعبة. ولبنان، لم يُشبّه بهذا الطير عبثاً، فهو يحتضن شعباً قادراً أن ينتقل من مشهد إلى مشهد مختلف تماماً بين ليلة وأخرى، ولقاء واجتماع. وقادر أن يلملم، بسرعة قياسية، خيمه ويزيل بصمات حرب وموت واستسلام وينزل قوافل ليشارك في حفلة غنائية ويدبك ويرقص ويهتف مع فنان وفنانة في مهرجان موعود. المهم الإستقرار والثقة.
شارع المصارف يعود تدريجياً إلى شكله القديم: زحمة رجال أعمال وربطات عنق أنيقة وبنوك عادت تفتح فروعها الأساسية تحت. وساعة النجمة ستعود تطن بقوة في كل مرة يلتقي فيها عقربا الساعة عند النصف، معلنة، بالتمام، التوقيت الصحيح. والزهور عادت تعطي ألوان وروائح تستثير المشاعر. مشاهد تفتح، لأول نظرة، القلب وتُنعش الروح، لكن قلوب البشر، الزائرين والعاملين والمستثمرين وأصحاب الملك ورواد السهر والرقص والفقش وشرب النرجيلة، ليست مطمئنة. ثمة ما يُنغص الحاضر ويُقلق في شأن المستقبل. حجارة الباطون تنذر: “ممنوع الوقوف” عند جانبي الطريق لكن السيارات الفخمة مركونة. هو مشهد غير مستحب وكأننا ما زلنا في زمن فيه ناس بسمن وناس بزيت. المقاعد الخشبية جنب مبنى العازارية ما زالت مقبوعة لكن العمل جار في المبنى ليعود من كانوا فيه إليه. المسارح ما زالت مقفلة بألواح الحديد الصلبة. مشاهد تدفعنا إلى التفاؤل وأخرى تجعلنا نسقط في التشاؤم الكبير. فهل الوسط أصبح مستعداً للقيامة الكبرى؟ الجواب الذي حصلنا عليه بالعين المجردة واضح كما الشمس: البلاد بأسرها بحاجة إلى قرارات جريئة تُنفذ تعيد الإستقرار والثقة إليها. والوسط مرآة البلد.
مواضيع مماثلة للكاتب:
الأرمن لا ينامون على حرير… “Barev” في برج حمود! | رياضة وتحدّي وانتحار و”انتصارات وهمية” في جنبات “صخرة الروشة”! | الضيعة التي تأبى أن تنام.. الأشرفية والبشير والذاكرة والحضور والتاريخ والجغرافيا |




