“باربي” و”زازا” والفاشية الدائمة

ترجمة “هنا لبنان”

كتب أنطوان قربان لـ “Ici Beyrouth“:

حذّر الفيلسوف الإيطالي أمبرتو إيكو في معرض كلامه عن الفاشية الدائمة، قائلاً إنها تعود متخفية خلف أكثر الأقنعة براءة، ما يستوجب إسقاط الأقنعة لكشف كل الأشكال الجديدة التي اتخذتها. وتكاد موجة الووكية تزعزع المراجع الثقافية التقليدية في مجتمعنا وتمنع الكشف عن الفاشية الدائمة المتلطية خلف الحملات “التطهيرية” ضد فيلم “باربي” وضد المثلية الجنسية. فالمثليّ مختزل في المجتمعات المتشددة، بصورة “زازا” في “قفص المجنونات”. وعلى ما يبدو ينطبق ذلك على لبنان..

القضية واضحة: يبدو أن “باربي” و”زازا” تجمدان الدم في عروق مقاتلي حزب الله، بالإضافة إلى كل أولئك المسلمين والمسيحيين العالقين في مستنقعات الحركات الشعبوية.

فهكذا، أيقظ المشروع الذي قدمه النائب مارك ضو، والرامي لتعديل المادة 534 من قانون العقوبات، النزعة الظلامية لدى جميع من نصبوا أنفسهم شرطة أخلاقية. فتفشى رهاب المثلية وانتشر الحديث عن النصر الكبير على المثلية الجنسية وعلى كل شرّ يهدد “القيم التقليدية” لمجتمع لبناني على شفير الانتحار!

وهذه الحملة التطهيرية ليست أخلاقية فحسب بل هي سياسية أيضًا وتعكس النزعة المتنامية للشمولية. من الجانب الإسلامي، فهي تدخل في اليوتوبيا “الإسكاتولوجية” لحزب الله. ومن الجانب المسيحي، تتغذى على الصرامة التقليدية للأخلاق المسيحية؛ بالإضافة إلى الشعبوية السائدة والتي تهدم أسس لبنان. وحالياً، يتخذ فريق من هذه الحركة مظهر أيديولوجية الهوية القومية.. أيديولوجية بناها مثقفون بدهاء وبصبر بشكل يتيح لهم إخفاء كراهية الآخر وراء شهاداتهم. ومع ذلك، يذكرنا خطابهم الذي تمتزج فيه كل الحجج والمغالطات، بخطاب علماء الأنثروبولوجيا العنصريين الأوروبيين في القرن التاسع عشر.

في معرض حديثه عن الفاشية الإيطالية في القرن الماضي، يحدد أمبرتو إيكو أربعة عشر معيارًا للفاشية الدائمة. ثلاثة منها موجودة في جميع النماذج الشمولية، بما في ذلك النازية، وهي رهاب المثلية والذكورية العنيفة والعنصرية ضد الأجانب.

إن الرغبة بتعديل المادة 534 من قانون العقوبات تعادل فيلم باربي تحديداً. وتجرم هذه المادة أي اتصال جنسي بخلاف الطبيعة دون أن تقدم وصفاً دقيقاً للطبيعة المذكورة.

ويبجو أن البيوريتانيين (أي التطهيريين) يتناسون اليوم الأمثلة اللامتناهية في ما يتعلق باختيار الميل الجنسي للفرد. ومن الأمثلة، مدينة إسبرطة حيث الحب الذكوري كان مفضلاً، وطيبة اليونانية، حيث كتائب المقاتلين تضم أزواجاً من العشاق. وفي القصص المتناقلة عن الإسكندر الأكبر وهيفايستون وعن أخيل العظيم وباتروكلوس. وكثرت حكايا سوتونيوس عن يوليوس قيصر، حبيب وزوج كل النساء والرجال. وهناك مايكل أنجلو، الذي ألف قصائد حب ساخنة لحبيبه توماسو كافاليري، وهو يرسم سقف كنيسة سيستين. كما تشير بعض التقارير إلى شغف بين السلطان سليمان القانوني وإبراهيم باشا الفرنجي، العبد الذي أصبح رئيسًا للغرفة الخاصة للسلطان والذي تدرج بسرعة في السلطة وعين صدراً أعظم وكلف بفتح مصر. ويحكى عن غيرة خُرم سلطان، حبيبة السلطان كما تحوم شبهات حول تخطيطها لاغتيال ابراهيم. وهناك في اليابان، قصص الحب ضمن فرق الساموراي حيث يرتقي حب الفتيان الصغار (واكاشودو) إلى الرتبة نفسها كتعلم استخدام القوس والسيف.

ويعجّ الأدب الفارسي وشعره بتلميحات للمثلية. وعلى سبيل المثال، يستعير الغزل الفارسي من العربية مصطلحات معشوق ومحبوب وحبيب، وكلها مفردات تعني المذكر.

وهناك ديوان شمس التبريزي للرومي الذي يضم مختارات واسعة من الشعر الصوفي في 23 مجلدًا، يتغنى آخرها بالحب الذي يجمع الرومي وأستاذه الروحي شمس بشكل أفلاطوني. وترتبط التجربة الصوفية بأكملها، في جميع الثقافات، بنشوة الإنسان، جسدًا وروحًا. وتوضح كاثرين دي سيينا أو تيريز دافيلا أو هندية عجمي كيف أن هزة الجماع بالنسبة للإنسان مرادفة النشوة بالنسبة للآلهة. ولا يبتعد المتصوفون الفرس عن هذا البعد، حيث تعكس الإثارة الجنسية المثلية في قصائدهم ما قاله الحاخام بعل شم طوڤ (1698-1760) مؤسس اليهودية الحسيدية، عن الجماع الأشبه بصلاة مع حضور إلهي.

لا تعني الأمثلة المذكورة سابقاً أن المثلية الجنسية بمعناها الحديث كانت مقبولة، كما أنها لا تشرع وتبشر بمجتمع الميم. كما لا تشبه بأي ناحية الـ”ووكية” الحالية والتي تعتبر رفضا مشروعًا تمامًا.

تختصر هذه الأيديولوجية الحمقاء الكائن البشري في جوهر غير واضح من الرجولة أو الأنوثة. ولكن الرفض العشوائي أيضاً يخاطر بإعادة ثلاثي الذكورية العنيفة ورهاب المثلية والعنصرية. ثلاثة مصطلحات لا يمكن فصلها، وتعبر معاً عن وضع الآخر في المجتمعات الأبوية التقليدية. والمرأة تجسد مجبرة، هذا الآخر الذي يحتقره المجتمع الذكوري المهيمن.. المرأة التي ترتدي البرقع والباربي التافهة وزازا المجنونة هن ضحايا الذهنية الذكورية والشمولية.

تؤكد معايير إيكو على أن الفاشية الدائمة تتوخى الحصول على الإجماع من خلال استغلال الخوف من الاختلاف.. إنها عنصرية بطبيعتها وتسقط إرادة الحرب الدائمة والبطولة القوية على الأسئلة الجنسية، فلا تتردد الذكورية العنيفة بالاستهزاء بالنساء وبالمثلية الجنسية.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع ذات صلة :

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us